قدر لنا أن نولد في الشرق الأوسط، وقدر لنا أن نعيش في زمن صعب وأوقات مريرة، عشنا حروبًا وشهدنا معارك، عاهدنا كوارث طبيعية كبرى، ونالنا كسوريين ما لم ينله إنسان على وجه هذا الكوكب من تعسف وظلم وقهر خلال السنوات المنصرمة على يد نظام تحكم بالبلاد، ورفض أن يهب لنا أبسط حقوق المواطنة.
خلال كل حياتنا صدعت رؤوسنا بخطابات قومية تناصر قضية فلسطين المحتلة، وشعارات فضفاضة تزيين الجدران والمكاتب العامة ملونة بعلم فلسطين، حتى أصبحت قضية فلسطين شماعة يعلق عليها كل قانون عرفي أو استنفار أمني أو قرار استراتيجي لا يخدم سوى السلطات، ورغم ذلك كان الأمر محببًا للقلوب والنفوس، لأن لفلسطين الجريحة قيمتها ومكانتها في الوجدان العربي عامة، والسوري خاصة.
ربط القدر بين مصير السوريين والفلسطينيين في سوريا، وربطت الأرض بين شريان السوري وشريان الفلسطيني، فنال الشعبين ما نالهم من عذاب.
الفلسطيني الذي قُتل في تل الزعتر على يد النظام السوري، عاش في قلب السوري الذي قُتل على يد نظامه في دمشق وحمص وحلب وإدلب.
الفلسطيني الذي حوصر وقُتل في مخيم اليرموك، قُتل أخوه السوري في الحجر الأسود، تشاركا الموت على يد نظام واحد
الفلسطيني الذي حوصر وقُتل في مخيم اليرموك، قُتل أخوه السوري في الحجر الأسود، تشاركا الموت على يد نظام واحد.
ربما نخطئ في القول بأن الشعبين قد تقاسما مصيرًا واحدًا، لأننا في الحقيقية أمام شعب واحد تقاسمه الموت، وتقاسمته مصالح الدول الكبرى، والدول العابثة.
وعندما وقعت الواقعة وبدأت الحرب الأخيرة على غزة، أطل الوجع علينا بألف رأس، وأطلت خيباتنا علينا بألف عين، وبدلًا من أن يلتفت البعض للتربيت على أكتاف الفلسطينيين المظلومين، بدؤوا بإطلاق حملات كيدية ضيقة الأفق تبرر بقصد أو بغير قصد همجية الاعتداء الاسرائيلي المتوحش على المدنيين العزل.
مبرراتهم تنحصر بأن حماس كانت منفردة بقرارها، وحليفة لإيران التي قتلت السوري في سوريا والعراقي في العراقي واليمني في اليمن واللبناني في لبنان.
لكن هؤلاء يتجاهلون عمدًا أن الوقت ليس وقت شماتة، ولا وقت تصفية حسابات، وأن للسياسة مقتضياتها وشروطها، وأن الشعب الفلسطيني الأعزل كان ضحية قاتله قبل سنوات طويلة من عملية طوفان للأقصى.
قد يبدو لي كسوري عاش كل مآسي الحرب في بلاده، وكل فجائع الثورة وما ترتب عليها من تخاذل دولي وعربي، بأن الغضب على حماس مفهوم لو انحصر في إدانة العملية من حيث شروطها الموضوعية واللوجستية، أو عدم تكامل شرطها الذاتي مع شرطها الموضوعي، كذلك يبدو مفهومًا عدم اشتراك الكثيرين في توجهاتهم الفكرية والعقائدية مع توجها حماس وحلفائها، غير أن غير المفهوم تمامًا، أن تحمل جريمة الحرب ورد الفعل الغاشم لجهة واحدة، ثم تغدو إدانة الكيان الصهيوني مجرد أمر نافل، كأن يقول قائل: هذا عدونا ونحن نعرف طبعه فلماذا نتحرش به؟
الأمر في هذه الحالة يصبح تزييفًا لما حدث، ومجرد كلام باطل، لا يتقبله ضمير ولا عقل.
الموقف الشعبي السوري العام واضح ولا لبس فيه ولا تشوبه شائبة، موقف مناصر للفلسطيني دونما مواربة، وكل صوت ناشز هو صوت يعبر عن نفسه فقط.
قبل يومين فقط، انتشر ذلك الفيديو الرهيب، القاسي، لجد يحتضن حفيدته، "روح روحه" كما قال. فتح عينيها، قبل وجنتيها، كان مبتسمًا، هادئًا، متألمًا، وكانت شهيدة وديعة في حضنه، أمام كل ذلك الحزن ننحني، وأمام هذه الفجيعة نرمي بقلوبنا قبل أصواتنا.
هؤلاء أولادنا، وبناتنا، وأهلنا، ونحن نذبح معنويًا كما يذبحون كل يوم.
الفلسطيني اليوم يقدم دمه على مذبح الحرية، شاء من شاء وأبى من أبى، وكل من يرجع للوراء ولا ينظر لما يحدث يوميًا يستحق العتب وقد يستحق الملامة، أما من يرمي بالقضية كلها عرض الحائط، فذلك لا يستحق أصلًا التوقف عنده.