ألترا صوت - فريق التحرير
هذا نص من كتاب "القارئ الأخير" للناقد والروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا (1941 – 2017)، الصادر مؤخرًا عن "منشورات المتوسط"، ترجمة أحمد عبد اللطيف. ويناقش فيه بيجليا مجموعة من الأسئلة المتعلقة بعالم الكتب والقراءة والقرّاء، منها: ما هو القارئ؟ من هو؟ ماذا يحدث له عندما يقرأ؟
يستعرض ريكاردو بيجليا في كتابه أشكالًا مختلفة للقارئ، منها القارئ المدمن الذي لا يستطيع التوقف عن القراءة، والقارئ الأرق المتيقظ دائمًا، والقارئ التراجيدي، والقارئ السيئ، بالإضافة إلى القارئ الأخير. ويضرب المؤلف نماذج متعددة حول هذه الأشكال المختلفة، فيحضر بورخيس، ومدام بوفاري، وكافكا، وأنّا كارنينا، وإرنيستو جيفارا، وغيره.
إرنيستو جيفارا، آثار القراءة
ثمة مشهد في حياة إرنيستو جيفارا لفت إليه خوليو كورتاثر: مجموعة التنزيل الصغيرة بمركب جرانما كانت مدهوشة فيما كان جيفارا، الجريح ويفكر أنه سيموت، يتذكر قصة كان قرأها. يكتب جيفارا في "مشاهد من الحرب الثورية": "سريعًا ما فكرت في أفضل طريقة أموت بها في تلك اللحظة، وقد بدا كل شيء قد ضاع. تذكرت قصة قديمة لـ جاك لندن، حيث البطل المتكئ إلى جذع شجرة يستعد لإنهاء حياته بكرامة، عندما عرف أنه محكوم عليه بالإعدام مجمدًا في المناطق المثلّجة بـ آلاسكا. هذه الصورة الوحيدة التي تذكرتها".
مما قيل عن جيفارا إنه كان خلال فترة حرب التحرير في كوبا: "قارئ لا يكل، عندما كنا نستريح، وبينما كنا جميعًا موتى من التعب، ونغمض عيوننا في محاولة للنوم، كان هو يفتح كتابًا"
يفكر في قصة لـ لندن "To build a fire" (صنع حريق) من كتاب "Farther North"، قصص يوكون. في هذه القصة القصيرة يظهر عالم المغامرة، عالم التطلب المتطرف، التفاصيل الصغيرة التي تنتج التراجيديا، عزلة الموت. ويبدو أن جيفارا قد تذكر واحدة من عبارات لندن النهائية: "عندما استعاد روحه والسيطرة على نفسه، جلس وتجول في عقله مفهوم مواجهة الموت بكرامة".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "القارئ الأخير".. الأدب يمنحنا الأسماء
يعثر جيفارا في شخصية لندن على الموديل المناسب لكيف يجب أن تموت. إنها لحظة تكثيف كبيرة. لسنا بعيدين عن دون كيخوته الذي يبحث في الروايات التي قرأها عن موديل الحياة التي يريد أن يعيشها. بالفعل، جيفارا يشير إلى ثربانتس في رسالة الوداع إلى أبويه: "مرة أخرى أشعر تحت كعبي بضلوع روثيناتي، أعود إلى الطريق بدرعي على ذراعي". المسألة هنا لا تقتصر على الكيخوتيستية، بمعناها الكلاسيكي، المثالي الذي يواجه الواقع، إنما الكيخوتيستية كطريقة لربط القراءة بالحياة. الحياة تكتمل بمعنى تم استخلاصه من قراءة الروايات.
في هذه الصورة التي يستدعيها جيفارا في لحظة يتخيل فيها أن سيموت، يتكثف ما يبحث عنه قارئ السرد. إنه هذا الشخص الذي يعثر في المشهد المقروء على النموذج الأخلاقي، نموذج السلوك، الشكل الصافي للتجربة.
إنه شخص يسعى إلى بناء المعنى، مما لا ينتقل شفاهيًا، كما يقول بنيامين في نصه "الراوي". إنه ليس شخصًا واقعيًا، يعيش ويحكي تجربته لآخر مباشرةً، إنها الثقافة التي تُقولب وتنقل التجربة، فيما يحتفظ بعزلته. فإذا كان الراوي هو من ينقل المعنى الذي يعيشه، فالقارئ هو من يبحث عن معنى في التجربة الخاسرة.
ثمة توتر أيديولوجي في البحث عن المعنى عند جيفارا. لكننا، في الوقت نفسه، قد نستطيع أن نقول إنه وصل إلى هناك، لأنه حل المعضلة. بالفعل، لقد وصل إلى هناك أيضًا، لأنه عاش حياته انطلاقًا من نموذج تجربة معيّن، قد قرأه ويبحث عن تكراره وتحقيقه.
بمعنى أكثر عمومية، أشار ليونيل جروسمان إلى المسألة نفسها في "Between History and Literature"، حين أشار إلى أن القراءة الأدبية حلت محل التعليم الديني في تشييد أخلاق شخصية.
إن كون جيفارا قد سجل تأثيرات القراءة وذكراها، ليقاوم أمام اقتراب الموت، يحيلنا إلى سلسلة من مواقف القراءة، ليست المتخيلة في النصوص فحسب، إنما الحاضرة أيضًا في الحكاية التي حكيناها بشكل خاص. إن الذين شاهدوا في المرة الأخيرة أوسيب ماندلشتام، الشاعر الروسي الذي سيودع الحياة في المعتقل في عهد ستالين، يتذكره أمام نار، في سيبيريا، في وسط العزلة، محاطًا بمجموعة من السجناء، يتحدث معهم عن فيرجل. إنه يتذكر قراءته لـ فيرجيل، وهذه آخر صورة للشاعر. إنه يصر هناك على فكرة أن ثمة شيئًا يجب أن يحافظ عليه، شيئًا راكمته القراءة مثل تجربة اجتماعية. ليس في ذلك استعراض للثقافة، إنما على العكس، الثقافة كمخلّف، كأطلال، كمثال راديكالي للتخلي عن التملك.
قد يمكننا أن نتحدث عن القراءة في أوقات الخطر. إنها دومًا أوقات القراءة المتطرفة، خارج المكان، في ظروف الخسارة، ظروف الموت، أو أيًا كان التهديد بالتدمير. القراءة تعارض عالمًا كريهًا، مثل مخلفات حياة أخرى وذكرياتها.
قد تكون مشاهد القراءة تلك أثرًا لممارسة اجتماعية. إنها عبارة عن بصمة، ممحوّة قليلًا، لاستخدام معنى يحيل إلى العلاقات بين الكُتب والحياة، بين الأسلحة والحروف، بين القراءة والواقع.
وجيفارا هو القارئ الأخير، لأننا أمام الرجل العملي بالمعنى الصافي، أمام رجل الأكشن. "ضيق صدري هو ضيق صدر رجل الأكشن"، يقول عن نفسه في الكونغو. إنه رجل الأكشن بامتياز، هذا هو جيفارا (وأحيانًا يتحدث هكذا). وجيفارا، في الوقت نفسه، يكمن في التقليد القديم، العلاقة التي يحتفظ بها مع القراءة ترافقه طوال حياته.
صورة
ثمة صورة فريدة لجيفارا وهو في بوليفيا، كان فوق شجرة، يقرأ، في وسط العزلة وتجربة الفرقة المحاربة المطاردة. يصعد شجرة، لينعزل قليلًا، ويبقى هناك ليقرأ.
مبدئيًا، كانت القراءة مثل ملجأ شيء عاشه جيفارا بشكل متناقض. في جريدة الفرقة المحاربة بالكونغو، عند تحليل الهزيمة، يكتب: "كوني أهرب لأقرأ، متجنّبًا بذلك المشكلات اليومية كلها، كان يُبعدني عن التواصل مع الرجال، من دون أن أحكي أن ثمة صفات في شخصيتي تجعل من الصعب التواصل معي".
القراءة تتشابه مع المثابرة والهشاشة. يصر جيفارا على التفكير فيها كنوع من الإدمان: "نقطتا ضعفَي الرئيستان هما التبغ والقراءة".
إن البعد والعزلة والانقطاع مجرد استعارات لما يجب أن يجذب للقراءة. وهذا ما يبدو كتعارض مع التجربة السياسية، نوع من الثقل يأتي من الماضي، مرتبطًا بالشخصية، بكينونة الفرد. في مناسبات مختلفة، يشير جيفارا إلى قدرة فيديل كاسترو على الاقتراب من الناس، وإقامة علاقات سائلة على الفور، في مقابل ميله ذاته إلى الانعزال، الانفصال، بناء ذاته في مكان ناءٍ. ثمة توتر بين الحياة الاجتماعية وشيء خاص وشخصي، توتّر بين الحياة السياسية والحياة الشخصية. والقراءة هي مجاز لهذا الاختلاف.
هذا ما يمكن أن يلاحظ في فترة لا سييرّا مايسترا". ففي إحدى شهاداته، حول تجربة حرب التحرير بكوبا، يقال عن التشي: "قارئ لا يكل، عندما كنا نستريح، وبينما كنا جميعًا موتى من التعب، ونغمض عيوننا في محاولة للنوم، كان هو يفتح كتابًا".
وبعيدًا عن الميل لأسطرته، ثمة شيء مميز هنا. الاستمرار في القراءة كأثر من آثار الماضي، في وسط التجربة الأكشن الصافية، والتخلي عن التملك والعنف، مع الفرقة المحاربة، في الجبل.
جيفارا يقرأ في داخل التجربة، يتوقف عنها. يبدو ذلك كبقايا يومية من حياته السابقة. حتى إن الأكشن لم يوقفها، كان كمن يستيقظ من النوم: في المرة الأولى التي دخلوا فيها معركة في بوليفيا، كان جيفارا ممددًا على سريره، ويقرأ. إنها المعركة الأولى، كمينٌ ينظمه ليبدأ العمليات بطريقة مبهرة، لأن الجيش يسير ممشطًا المكان، وبينما كان ينتظر، كان هو ممددًا على سريره، يقرأ.
هذه المعارضة لا تزال مرئية، إن فكّرنا في صورة القارئ الجالس على عكس صورة المحارب السائر. الحركة المستمرة في مواجهة القراءة كنقطة ثابتة في جيفارا.
اقرأ/ي أيضًا: الزواج والأدب
يكتب جيفارا في عام 1961 في "حرب حروب العصابات": "الخاصية الرئيسية في حرب العصابات في الحركة، ما يسمح لك بأن تكون، في دقائق قليلة، بعيدًا عن مسرح الحدث المعيّن، وفي ساعات قليلة بعيدًا عن المنطقة نفسها، إن كان ذلك ضروريًا؛ أنها تسمح لك بأن تغيّر جبهتك باستمرار، وأن تتجنب أي نوع من الحصار". إن الانحصار في أرض محددة، فكرة النقطة الثابتة، دائمًا ما تكون مرصودة. لكن، على عكس التجربة السياسية الكلاسيكية، فتراكم الشيء وامتلاكه يفترض خطرًا سريعًا. يحكي ريجيس ديبريه سقوط أول نقطة بالمرسى في بوليفيا، المنطقة الصغيرة الخاصة: "قبل ذلك، كان قد شيّد مكتبةً، مختبئة في قبو، بجانب مخزون الغذاء وكشك الإرسال".
يقول ريكاردو بيلجيا إن القراءة بالنسبة لجيفارا كانت أقرب إلى ملجأ عاشه بشكل متناقض، وأحد نقاط ضعفه أيضًا إلى جانب التبغ
إن السير يفترض، بالإضافة، العبث، الخفة، السرعة. يجب أن يتخلّوا عن كل شيء، أن يخفّوا ويسيروا. لكن جيفارا يحتفظ بثقل ما. في بوليفيا، خائر القوّة، كان يحمل كتبًا على كاهله. وحين يعتقلونه في نيانكوازو عندما يضبطونه بعد الأوديسة التي نعرفها، أوديسة تفترض أن يتحرك بلا توقف، وأن يهرب من الحصار، الشيء الوحيد الذي يحتفظ به (لأنه فقد كل شي، ولم يبق معه حتى حذاءه) هو حافظة أوراق جلدية، كان يربطها على خصره، في جانبه الأيمن، حيث احتفظ بيوميات المعركة، وبكتبه. الجميع يتخلى عن كل ما يعوق السير والهروب، لكن جيفارا يصر على الاحتفاظ بالكُتب الثقيلة، والتي تناقض فكرة الخفة التي يتطلبها السير.
اقرأ/ي أيضًا: