سرايا بنت الغول: الخرافيّة وواقعيتُها
انتهى الكاتب الفلسطيني الراحل أسامة مسلّم (1994 - 2021) من مقالته هذه قبل رحيله في يوم الثلاثاء 5 تشرين الأول/أكتوبر 2021. درس الراحل الهندسة، وكان يعمل معلمًا للتكنولوجيا في مدرسة حكومية. وهو صاحب ومؤسس مشروع همزة للتدقيق اللغوي والترجمة. لديه رواية لم تكتمل بعنوان "رواية حنين"، إلى جانب ديوان شعري لم ينشر بعنوان "صلاة الموت"، إلى جانب العديد من المقالات الأدبية ومنها ما نُشر في ألترا صوت، الذي ينشر هذه المقالة بناء على تواصل ورغبة زوجته.
يتميّز منجَز الروائي الفلسطيني اميل حبيبي المسمّى "سرايا بنت الغول" بتخطّي منظومة السرد الروائي والقصصي، حيث يسافر بالقارئ إلى أمكنة عديدة متكئًا على بنية سردية تتخطى حيز الزمن الواحد، وتتخطى كذلك التمركز حول شخصية واحدة. ومن هذه المنطلقات كانت هذه المقالة.
يحضر الزمن في خرافيّة اميل حبيبي بوصفه حيزًا للذاكرة المرتبِكة، إذ ترتسم شخصياته الكثيرة بفعل الامحاء لتتجسد في ملامح ناقصة لا تكتمل إلا بالخرافة
ينمازُ الروائي اميل حبيبي باختياراته لعناوينه الأدبية التي تستندُ إلى تمثيلاتها الأدبية، فنجد عنوانًا شديد الغرابة: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، وعنوانًا ساخرًا: لكع بن لكع... إلخ.
اقرأ/ي أيضًا: المتشائل الذي أنا
أما عن سرايا بنت الغول، التي عنونها اميل حبيبي بـ"خرافيّة" فإنها خرافيّة تتجاوز الخرافية، لتدخل في رواية حقبٍ زمنية مبعثرة من سيرة بطلها، ولتشكل مزيجًا مدهشًا بين السرد الروائي وسرد الخرافيّة. يشكّل حبيبي خرافيّته من أسطورة فلسطينية قديمة، عن فتاة صغيرة محبة للاستطلاع خطفها الغول في إحدى جولاتها، تبناها وأسكنها قصره المشيَّد في أعالي جبل ما. الفتاة الصغيرة التي كانت مشهورة بامتلاكها جدائل طويلة ظلّ ابن عمها يبحث عنها في البراري مناديًا إياها: "سرايا، يا بنت الغول، دلّي لي شعرك لأطول"! فسمعته، ثمّ دست مخدِّرًا في شراب الغول فنام، فمدّت جديلتها لابن عمها فصعد عليها ثمّ انسلت معه وعادت إلى قريتها.
ويجد اميل حبيبي مفارقة بطله الروائي في الأسطورة نفسها، إذ إن بطله الروائي انشغل عن فتاة أحبها في صباه ثم أشغلته همومه اليومية عنها، فأهملها. لتظهر له حبيبته الصغيرة في شيخوخته، فيعود للبحث عنها.
الزمن بوصفه ذاكرة
يحضر الزمن في خرافيّة اميل حبيبي بوصفه حيزًا للذاكرة المرتبِكة، إذ ترتسم شخصياته الكثيرة بفعل الامحاء لتتجسد في ملامح ناقصة لا تكتمل إلا بالخرافة، وربما كان هذا المزج هو الأسلوب الأدبي الذي ميّز الخطوط السردية لخرافية حبيبي.
الذاكرة التي اتكّأ إليها مفعمةٌ بتذكّر الأحداث والقصص، ولكنّها ذاكرة مثقوبة حين يتعلّق الأمر بشخصيّات الحدث نفسه، أعني وصفها، أو تذكّرها تمامًا، كما أنها ذاكرةٌ متشعّبة، تتجاوز حدود المكان؛ فتغرق في أماكن بعيدة بعد الجغرافيا، لتحمل بقايا غرقها على هيئة حكاية وطرفة، وتتجاوز حدود الزمان، لتروي حكايات الماضي، فنجد أن الماضي يضع صبغته على سردية الخرافية، ويظهر بين حين وآخر متمثلًا في أبيات من الشعر أو حكاية عربية قديمة أو طرائف لا يمكن لنا تصور الخرافيّة من دون وجودها.
ينحاز اميل حبيبي في خرافيّته إلى الماضي، مشكّلًا منه قصاصاتٍ أتقن تركيبها لتظهر صورةٌ تعبّر عن ملامح غريبة، لكنّ أجزاءها مألوفة إلى حدّ بعيد
أما الزمن، من زاوية أخرى، فقد تداخل في الخرافية بصورة التبس فيها على القارئ، بحيث لا يستطيع في مواطن كثيرة تفكيكه إلى الأقسام الثلاثة التي صنّفه القارئ إليها. ويمكن أن يقسّم الزمن في هذه الخرافيّة إلى ثلاثة أزمنة: زمن الطفولة وزمن الشيخوخة، وزمن ملتبس بينهما، ولكن الأزمنة كلّها تشترك في طلّة "سرايا" سواء كانت طلة حقيقية، أو كانت طلّة "خرافيّة/وهمية".
اقرأ/ي أيضًا: أولاد الطين.. مهمَّشو السرد الروائي
ينحاز اميل في خرافيّته إلى الماضي، مشكّلًا منه قصاصاتٍ أتقن تركيبها لتظهر صورةٌ تعبّر عن ملامح غريبة، لكنّ أجزاءها مألوفة إلى حدّ بعيد. يرتبط حبيبي بشخصياتٍ يبدو أنه عايشها تمامًا، ينسل خيوطها الملوّنة ويفككها، ويمرر بين تلك الخيوط حكايته الخاصة. تطلّ "سرايا" دائما لتُرجع بطله إلى لحظة اللقاء عبر سردياتٍ دامية بالحنين، مضرّجة بغياب كان قد اجتنحه، تطلّ دائمًا وكأنما مرّت عبر الزمن، ولم يمر الزمن عليها، شابّةً نضرةً منغمسةً بملامحها الأولى: "فينجلي المشرقُ وينجلي وجهها أمام ناطري –وجه سرّي الدّفين- وقامتُها وشعرُها الكستنائيّ وشفتاها المتعطشتان إلى المياه العذبة تعطّش الشرق، تعطشًا أبديًا، إلى الواحات وإلى ظلال الشجر".
أما هو، فيطلّ بملامح تجذّرت فيها الرغبة باللقاء الحقيقيّ، أو برغبةٍ دامعةٍ بالعيش في الماضي الطفوليّ البعيد، شرط أن يمشي به العمر دون أن يهجر سرايا: "لم ينفكّ يبحث عنكِ في الطيّات المجهولة من ضميره الذي حبسه في قصر شيّده فوق قمّة يُخفيها الذباب الأبديّ من قمم الكرمل. ينتظرك انتظارًا مريعًا أشدّ إيلامًا من يقين المؤمن بأنّ الموت حقّ. فهل أرى في عينيكِ لومًا أغمضت عينيْ ضميري عنه طول هذا العمر خوفًا من ضياع ذلك اليقين؟".
يتعلّقُ اميل حبيبي بشواهد تبقي إحساسه بالحياة متدفّقًا، ونتيجةً لذلك فإنه يعلّق بطلّه بذات الشواهد: الكرمل، طريق الآلام، درج اليازجي، سور الراهبات... إلخ. يتسرّب ذلك التعلّق إلى قلب القارئ، مبقيًا عينيه مشدوهتين، وتاركًا مخيّلته تمشي نحو تلك الشواهد. وفي أثناء ذلك، يتتبع حبيبي خسارات شخوص خرافيّته، خسارات تنصبّ أولًا في خسارة أرض الوطن: خسارة أخيه جواد... خسارة أمه لوطنها حين غيّبتها بوابة ماندلباوم، وخسارته هو، المتمثّلة في خسارة "سرايا".
تقعُ خرافيّة "سرايا بنت الغول" للروائي والأديب اميل حبيبي على مساحة (221) صفحة، تروي حوادثَ كثيرة، تتشابك خيوطها السردية وتتشابك أزمنها وأمكنتها، بل وشخوصها إلى الحدّ الذي يجعل من تفكيكها أمرًا معقّدًا، ويرجع ذلك إلى أسلوب الروائيّ نفسه، الذي اختلق لنفسه أسلوبًا فريدًا في الكتابة، يُشعر المتلقي بالتيه، ولكنّه تيه يرجعكَ دائمًا إلى الخطوط السردية نفسها، يشبه الأمر أن تشدّ وسطك بحبلٍ متين، طويلٍ جدّا، ثم تشدّ طرفه الآخر إلى عقدٍ ثابتة ثمّ تسبح في ملكوت الله، تراقب أزمنةً عديدة، وتصل إلى أماكن لم تتخيّلها يومًا، تنزلُ فيها لتشهد أحداثًا بعينها فرّقك زمنك عنها، وقد تبحثُ فيها عن "سرايا"، وقد تجدُها واقفةً على صخرة الشاطئ (مكان لقائها ببطل اميل الأول) ثمّ تختفي، لتبحثا عنها... وتشدّ الحبل مرة أخرى لتعود إلى المكان الذي جئت منه.
اقرأ/ي أيضًا: