تعرفتُ على الكاتب والروائي العراقي الراحل سعد محمد رحيم (1957- 2018)، من خلال مقالاته المميزة التي ينشرها في "جريدة المدى" البغدادية، ولاحظتُ بأنه يكتبُ بحس إنساني بعيدًا عن الرطانات الأيدولوجية، تميزَ أسلوبه بالموضوعية في مقاربة المعطيات الفكرية والقضايا الوطنية، كما كان على دراية بالمفاهيم الحداثوية والصراعات الهوياتية، ويدركُ القارئ من خلال متابعة مراجعاته للكتب والأعمال الروائية في الصحف والدوريات العربية وما ضمه كتابه الموسوم "سحر السرد" تعمق صاحب "فسحة للجنون" في الأدب وإلمامه بتقنيات السرد وتبصره في تحديد خصوصية الأعمال الروائية التي كان يتسعرضها في مراجعاته النقدية.
كتب سعد محمد رحيم بحس إنساني بعيدًا عن الرطانات الأيدولوجية، كما تميزَ بالموضوعية في مقاربة العديد من القضايا
هذا الفيض المعرفي والثقافي كان وليدَ قراءاته الغزيرة ومواظبته في متابعة حركة الفكر على المستوى العالمي، إذ كان يحاولُ سعد محمد رحيم شرح الأزمات الطاحنة في بلداننا على ضوء ما قدمه المفكرون العالميون من أطروحات جديدة لمفهوم الهوية والمواطنة إذ يستشهدُ في كتابه "المثقف الذي يدس أنفه" بما بلوره أمارتيا صن وبندكت أندرسون حول وظيفة الدولة ودور المثقف في العالم المُعاصر، موضحًا العلاقة بين المواطن والدولة من منطلق رؤية جون ستيوارت مل، الذي يعتقدُ "بأن دولةً تُقَزِمُ رعاياها لتجعلهم مجرد أدوات خنوعة لخدمة مشاريعها حتى وإن كانت هذه المشاريع مُفيدةً، ستعجزُ في النهاية عن القيام بمنجزات كبرى اعتمادًا على أقزام".
اقرأ/ي أيضًا: سعد محمد رحيم.. أهوال الحياة العراقية
أراد سعد محمد رحيم، مؤلف "أنطقة المحرم" من خلال هذا المقتبس تشخيص الخلل وراء النكسات المتتالية، وتراوحنا في وحل التخلف نتيجة سوء العلاقة القائمة بين الدولة والمواطن. إلى جانب ذلك فقد تبنى سعد محمد رحيم موقف جان بول سارتر لدور المثقف الذي تكون وظيفته الأولى هي إزعاج السلطات، كما آمن أيضًا بموقع المثقف كما حدده ألبير كامو بأنَّه من الضروري أن لا يقف بجانب الذين يصنعون التاريخ بل يجبُ أن ينحاز إلى من يتألمون ويكلفهم صنعه ثمنًا باهظًا.
وعلى عكس من فهم الحداثة والتحديث بأنَّه انقطاع من الماضي وترديد لكلمات ومصطلحات وافدة، فإنَّ سعد محمد رحيم رأى بأنَّه من الأفضل التعاطي مع التراث الماضي بمنهجية مُختلفة تتساوق وحاجات الحاضر والمُستقبل. ونحن بصدد الحديث عن هذه القامة الثقافية لا يجوزُ تجاهل كتابه القيم "استعادة ماركس" إذ يسرد قصته مع هذه الدراسة من بعقوبة قبل أن ينسف بيته بفعل الانفجار وذهابه إلى بغداد، وما أثاره نشر أجزاء من الدراسة في موقع الحوار المتمدن والمدى من ردود الأفعال، التي كانت أغلبها مشجعة ما أمده بالرغبة لإصدارها بين دفتي الكتاب.
من المعلوم أنَّ الميول اليسارية لدى سعد محمد رحيم وتأثره بأطروحة ماركس واضح، غير أن ذلك لم يتحول إلى العقيدة كأنَّه أدرك بأن أي فكرة عندما تتلبس بأردية العقيدة يدركها الركود والجمود على حد قول جورج برنادشو، لكن هذا لا يعني عدم اقتناع الكاتب بتنبؤ ماركس عن عالم تختفي الصراعات الطبقية، بل يؤكد أن الجنة التي تخيلها صاحب "رأس المال" على الأرض ما زالت ممكنة. جدير بالذكر في هذا المقام أن "استعادة ماركس" كتاب يضعك أمام الظروف والأحوال التي ساهمت في تكوين الفلسفة الماركسية، كما يورد في سياق فصوله رؤى ونظرة الفلاسفة المعاصرين: رجيس دوبريه، وجاك ديريدا، وسارتر عن مصير هذه الفلسفة.
إذا انصرفنا إلى الشق الإبداعي في شخصية سعد محمد رحيم، نرى روايات مميزة في رصيده، لا سيما "مقتل بائع الكتب"، التي وصلت إلى قائمة بوكر القصيرة، واحتفى بها النقاد على نطاق واسع، وجُمعت المقالات والدراسات التي نشرت حولها في كتاب صادر من "دار سطور".
كان سعد محمد رحيم على المستوى الشخصي إنسانًا مُتواضعًا ومتعففًا عن النقاشات والسجالات العقيمة، لذا كنت مشتوقًا للقائه بعدما أجريتُ معه لقاءً صحافيًا من خلال النت ونشر في صحيفة "الجمهورية" اللبنانية، وعندما سمعتُ بأنَّه سيُشاركُ في "مهرجان كلاويز الأدبي"، تحدثتُ معه من خلال فيسبوك وأعربتُ عن سعادتي بأنّه سيحل ضيفًا على مدينة السليمانية.
يشار إلى روايته "مقتل بائع الكتب" ترجمت إلى اللغة الكردية ولقيت استقبالًا جيدًا لدى القراء. لم أتمكن من اللقاء بسعد محمد رحيم أثناء فعاليات المهرجان وفاتني لقاؤه أيضًا في مكان إقامته، نظرًا لشدة احترامي لأوقات الآخرين وخوفي بأن يكون توقيت زيارتي غير مناسبة.
كان سعد محمد رحيم على المستوى الشخصي إنسانًا مُتواضعًا ومتعففًا عن النقاشات والسجالات العقيمة
يوم أمس سألتُ أحد أصدقائي عن الضيوف فأخبرني بأنهم رجعوا إلى بغداد، قلتُ ربما سألتقي به في بغداد في توقيت غير مرتقب، وأن الصدفة خير من ألف ميعاد، لكني تفاجأتُ حين قرأتُ خبر تعرضه لجلطة في القلب، وعندما زرتُه في المستشفى التعلمية قلتُ: "ستتعيد عافيتك إن شاء الله"، فأجابني: "الله كريم"، وتحدث مع ابنه في بغداد وطمأنه على صحته وغادرتُ المستشفى. ما وجدنا، لا أنا ولا أصدقائي شيئًا، ينبئ بأن حالته الصحية ستتدهور. كان القلب على وشك استعادة توازنه وأكد على أنه سيبقى في المُستشفى.
اقرأ/ي أيضًا: "معرض بغداد الدولي للكتاب": فاتحة لحياة عراقية جديدة
لم يمر كثير من الوقت إلى اتصل صديقي وقال بأن الأستاذ سعد يلفظ أنفاسه الأخيرة. حاول الأطباءُ والموظفون كل ما بوسعهم عسى أن ينعش القلب لكن في منتصف الليل فارق سعد محمد رحيم الحياة، بعدما تمرد على الموت في أزمة قلبية سابقة، عاد منها وقدم أجمل أعماله الإبداعية: فسحة للجنون، التاريخ ينكل بالحداثة، مقتل بائع الكتب، المثقف الذي يدسُ أنفه. غير أن هذه المرة منع الموت بقسوته المعهودة عودته إلى الحياة، وبذلك خسر العراق مثقفًا وأديبًا وإنسانًا من طراز فريد لا يمكن تعويضه أبدًا.
اقرأ/ي أيضًا: