قصة "دراجة مفككة" إحدى القصص القصيرة في مجموعة "حيث تشير البوصلة" للكاتبة السورية سناء عون، وكانت المجموعة صدرت عن منشورات المتوسط في عام "2018".
تدور القصة حول امرأة تصطدم بأسطوانة معدنية في الشارع فتغضب وتركل الأسطوانة ومن ثم دراجة مربوطة إليها، تبدو حبيبة إلى قلب مالكها المجهول. ذات يوم يهمل المالك دراجته ويتركها لعوامل الطبيعة حتى تتهرأ. تشعر المرأة بالتعاطف مع الشاب المجهول وتبحث عنه فتختلف نظرتها إلى الدراجة، بينما تبقى الأسطوانة المعدنية موضع نقمتها.
في قصة سناء عون، يصطدم المتلقي منذ البداية بامرأة مقهورة غاضبة، لتفاجئه الحبكة القصصية أكثر من مرة بمتلازمة السلب والغضب
تسم سناء عون قصتها بمفردتي "دراجة مفككة"، وقد تريد أن توحي للمتلقي مباشرة بمحتوى قصتها القصيرة. تبتدئ إذًا بالصريح لتخبر عن الغامض. الصفة النكرة "المفككة" تشي بالنهايات المفتوحة على السكون والخراب، في حين يفترض بأي دراجة، العلامة على الحركة، يفترض بها أن تفتح أفق المتلقي على الانطلاق في الريح، رفع اليد عن المقود والابتهاج بلذات الحياة والحرية كما في المشهد الأخير من فيلم "City of Angels"، في مشهد تفكيكي في تفاصيله الشهية بالنسبة لامرأة ذاهبة إلى العمل لتعانق الحياة أو تعود منه إلى الاستراحة من العناء.
اقرأ/ي أيضًا: سناء عون في "حيث تشير البوصلة".. إعادة تركيب الضحايا
بجملة شديدة التكثيف من تلك الحياة اليومية لامرأة "عادية" لا نعرف سنها، تفتتح عون قصتها: "لم أكن لأنتبه لتلك الأسطوانة الحديدية، لولا تمزيقها لكولون الساتان الأسود الجميل". لتبدأ خطًا سرديًا متصاعدًا يحيلنا من فوره إلى زمن معين، كما يفترض بصنعة القصة القصيرة، قد لا يشي بأي مفاجآت. لكن البدء بعلامة النفي "لم" وإلحاقها من ثم بـ"لولا"، يفتحان الأفق على قراءة أوسع من الاكتفاء بذلك الخط. ستأخذ الراوية بالقارئ إذن إلى مجالات غير محصورة بصورة واحدة أو حدث واحد تعتمد عليه القصة موضوعًا فردًا. النفي والشرط كفيلان بإحداث سلسلة من التناقضات التي ستبنى عليها الحبكة وقد تنتهي على احتمالات متضادة، لأن المرء سيكتشف خلال القراءة عن شخصية متناقضة، مضغوطة لدرجة الانفجار، مكثفة في رؤيتها للحدث حولها ومليئة رغم كل هذا بعشق للمكان وساكنيه البسطاء.
إذًا يصطدم المتلقي منذ البداية بامرأة مقهورة غاضبة: "اللعنة". وانطلاقًا من هذه البداية يزداد الغضب مع استمرار حدثها/أحداثها، لتفاجئنا الحبكة القصصية أكثر من مرة بمتلازمة السلب والغضب، السلطة والمواطن، الذكر والأنثى، المبطّن والظاهر. فنقرأ مفردات على غرار الحقد، التحطيم، الانتزاع في الفقرة الأولى وتتكرر مترادفاتها أو إيحاءاتها من ثم طوال القصة. ينغص على حياة هذه المرأة تفصيل انبثق فجأة في الشارع: أسطوانة حديدية. الأسطوانة، المعدن الثقيل، تطرأ في المكان وتمزق كولون الساتان الرقيق، الذي اشترته الراوية توًا ربما لتحتفي بموعد جميل أو بذاتها وتضفي على رتابة يومها العادي جزئية مثيرة وتتحول إثر هذا "الحدث" إلى "صبي أزعر" يتمتع "بتخريب" كل ما حوله، فيركل الحديد غاضبًا. هذا الإنسان المسلوب، المقهور، الذي يحطم كل رمزيات القوة، السلطة، الدولة، حين تغدو هذه الرموز علامة فارقة مدمرة في اليومي. وبعد انفجار الغضب على الأسطوانة (الرمز الذكوري المنتصب) تحيلنا الساردة إلى مفرق جانبي للقصة، إلى الدراجة الهوائية. هذه الدراجة الهوائية، المنذورة أساسًا للتنقل، تتلاحم بصورة ما مع الأسطوانة الثابتة. وبما أنها تتوحد معها، يحل عليها هي أيضًا ذات الغضب وتنزل عليها ذات الركلات. تعتبر الساردة/الشاهدة أن هذه الدراجة تعود لشاب (كما هو العرف المحلي، فلا تقود المرأة الدراجة و"ثقل" الكهول يمنع عليهم القيادة ربما)، أي أنها هي أيضًا تذكرنا بالذكورة وبالشباب.
في النص استعارتان أساسيتان إذًا، الأسطوانة والدراجة، ورغم أنهما مفردتان مؤنثتان إلا أنهما تدلان على سلطة ذكورية، تحيلنا رمزيًا إلى سلطة الدولة. ولو بفوارق سنلحظها مع الاستمرار في القراءة. تلاحظ الساردة أن مالك الدراجة يعتني بها اعتناء عاليًا قد يكون معهودًا في زمن السلم من شاب يضفي جماليات على البسيط الذي يملكه، أو يسيطر عليه، لإغراء حبيبة ما: "خمنت أن صاحبها يعيش نشوة ما مع هذه الدراجة". تستنبط علاقة الحب من التزويقات التي تظهر يوما بعد آخر على الدراجة، في زمن صعب، لا تتوافر فيه نقود لأساسيات الحياة التي غدت، كما يوحي النص، كماليات. فحين يتمزق الكولون لا تشتري الساردة جديدًا لأنها لا تملك ثمنه، بينما ينفق الشاب على كماليات تبدو له ضرورات حياتية. تصور الساردة اللحظات الحميمية بين الدراجة، الجماد، ومالكها، الحي، بالتغيرات الجمالية التي تتكاثف إلى صورة سوريالية ثم تنقطع هذه الحميمية ويكف الشاب فجأة عن الاهتمام بدرادته، عن حبها. فتقلق عليه القاصة وتحاول كشف سر الغياب، ولذلك يتسرب الدفء إلى علاقتها هي بالدراجة، تحييها بحب بعد أن كانت تركلها بنقمة على غرار الأسطوانة. بل إنها تختلق اسمين لأبطال قصة الحب المتخيلة ضمن القصة الرئيسية: جود وياسمينا. ولعل تحيل المفردة أيضا إلى المكان الذي يرتبط في الذاكرة الجمعية بالياسمين، بينما يغلب أن يكون اسم الشاب ابتكارًا من مخيلة الراوية، إشارة إلى العطاء والبذخ لأجل الدراجة /الحبيبة، وربما كان اسمًا لشخصية تعرفها الكاتبة وتعرض لمصير "بطل القصة" الذي يظل مجهول المصير.
ترصد سناء عون في قصة "دراجة مفككة" تفاصيل الحياة اليومية العادية والاجتماعية في ست صفحات ونصف من القطع الصغير، من خلال ومضات متفرقة
قد تجري الحبكة في أي مكان من هذ العالم المضطرب. لكن بغياب الاهتمام بالدراجة تبدأ الراوية تتساءل عن إمكانية وجدوى الحب في مكان لا تحدده بعد وتكشفه لنا في لحظة تكثيف في عقدة القصة. إنه المدينة حيث شتى الفروع الأمنية وحيث "ثقل الحرب"، ومن ثم "دمشق" حيث: "نعشق تحت القذائف وبين الركام". هكذا تحيلنا الأسطوانة إذًا إلى الحواجز الأمنية في شوارع دمشق وتكشف لنا فداحة الحياة اليومية هناك وارتهانها بالمفاجآت الطارئة. تلك الأسطوانة تمزق كولون الساتان، تجرح فخذ المرأة، جسد المدينة، وتفكك ما فيها من كائنات، تغيبها شيئًا فشيئًا لتضع لها مصائر مجهولة سوى ما يبقى منها من سلاسل حديدية: "راحت الدراجة تفقد جسدها قطعة قطعة... كانت هناك أسطوانة حديدية منتصبة في وسط الطريق ترتمي حولها سلسلة حديدية ثخينة". والسلسلة هي السلسلة التي تربط الدراجة بالأسطوانة، تربط الحركي بالثابت. وهكذا تؤنسن الكاتبة الدراجة. بعد أن تمزق كولون القاصة، الغشاء الرقيق الذي يغمر ساقيها، لا يبقى سوى الأسطوانة الحديدية الجارحة محاطة بسلسلة معدنية ثخينة. إن لجوء الكاتبة إلى هذا الطرح يعيدنا مرة أخرى إلى اللعب على الذكوري السلطوي والأنثوي الضحية من ناحية، لكنه من ناحية أخرى يشير إلى الانهيار الشامل في ظل الحرب لتصف للمتلقي الحالة الاجتماعية والسياسية في مكان القصة، مدينتها دمشق أو أي مكان آخر، حيث لا يبقى للشاهدة على الكارثة سوى الاهتمام بما تبقى من الأشياء التي تذكر بحياة أخرى، تؤنسنها وتتعاطف معها "لتكسر العجز" وتقف "دقيقة صمت" تذكارًا ورفقًا بالضحايا التي "تغادر يومًا بعد يوم"، تختفي. وربما استخدمت الكاتبة فعل "يغادر" في وصف غياب قطع الدراجة دلالة على مغادرة البشر مكانهم الأليف إثر الدمار الشامل بينما لا يبقى للباقين سوى "غصة" تؤلم.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة سناء عون
هكذا ترصد الكاتبة وتفكك تفاصيل الحياة اليومية العادية والاجتماعية في قصة قصيرة على ست صفحات ونصف من القطع الصغير من خلال ومضات متفرقة تتوزع في فقرات النص، مختلفة الطول، منذ البداية حيث المصيبة حتى النهاية حيث الفراغ. تُسرق قطع الدراجة الهوائية شيئًا فشيئًا في غياب مالكها. أين يختفي المالك؟ لا تؤكد الكاتبة جوابًا. إنه يختفي وقد يكون هذا الاختفاء مؤقتًا أو أبديًا، قد يكون بسبب نهاية قصة الحب (ما يستبعد من إيحاءات النص) أو قد يكون اختفاؤه في الزنازين أو على الجبهات (على الأرجح حسب السردية). إنه بجميع الأحوال رحيل نحو العدم وهنا تتماهى "كائنات" القصة معًا، تظل متلاصقة في صيغة الأسطوانة والسلسلة الحديدية، ثم لأن السلسلة ذاتها تذكر الراوية بمالكها المختفي ولأن السلسلة ملتحمة مع الأسطوانة، تلبس الراوية الأسطوانة المقيتة كولونًا جديدًا، دون أن نعرف هل تريد حماية الأسطوانة ذاتها (الأمر المستبعد) أم حماية ما يتبقى من الدراجة الأليفة رغم تفككها. هل هناك عبثية أبعد من هذه؟ السلسة التي نظرنا إليها كقيود للمعتقلين، الأسطوانة التي تنتصب فجأة في منتصف الطريق وقطعت كولون الساردة، تلبسهما الراوية كولونها الجديد وهي التي امتنعت في بداية القصة عن شراء كولون جديد لنفسها. يغدو الجميع ضحية للعسف، يضيع، يسرق ويغيب أو يغيّب. وتبقى الأسطوانة منتصبة في مكانها، فظيعة كأي حاجز أمني يوقف عليه الشباب وتحجز دراجاتهم التي تتآلف الشاهدة مع بقاياها، ربما كصديق أخير لم يغادر بعد، يمنحها دفء العلاقة، ربما هي الأخيرة، بين الكائنات حين تنتهي القصة بعبارة: "عمت صباحًا أيتها الدراجة" المعقولة إلى الأسطوانة الحديدية. هكذا تغلق الكاتبة القصة مع الأسطوانة كما افتتحت بها كأن الأحداث جرت في حلقة مفرغة، نهايتها بدايتها.
تصف الكاتبة زمن القصة المفتوح على أي مكان ممكن بكلمة "حرب". وستلعب تاليًا على هذه المفردة بقصة "حب". (ربما جدر الذكر أن كلمة حرب واشتقاقاتها ترد أربع مرات عبر النص، بينما تمر كلمة حب باشتقاقاتها سبع مرات، أي الضعف ناقصًا واحدًا، وهذا في النصف الثاني من القصة). في هذا الزمن تؤجل المتطلبات، تتكرر الأحداث بذاتها على مدى طويل لا تحدده القصة تمامًا: "صباح الخير.. مساء الخير"، ولو كان الزمن يتوقف "عندما ننتظر". فرغم ورود مفردة "شهر" إلا أن الحدث يستمر أطول بكثير فتتعرض الدراجة "للمطر والشمس والهواء"، ما قد يكون دلالة على تعاقب مستدام للفصول، رغم أننا أمام قصة قصيرة. لكن يبدو أن "زمن الحرب" لا يعرف نهاية ويبقى مفتوحًا، يبدو سرمديًا، رغم "أن الصدأ بدأ يتسلل" إلى الدراجة المفككة.
باتقان توائم سناء عون بين المتناقضات، السكون والحركة: "العجلات صنعت للدوران، لا لتأكلها التشققات من كثرة الوقوف" وتخوض جدالًا يعلو وينخفض بين الخراب والدعة، بين الرعب والجرأة، بين شجن الكولون وسطوة المعدن، لتغري المتلقي بالتساؤلات الكثيرة التي تقلق الشاهدة/بطلة القصة، ذلك القلق المفتوح على المجهول، مقتصرة على الجوهري في السرد، على تفاصيل يوم امرأة "عادية" بلحظاتها العابرة تحت قسوة زمن غير عادي مطلقا، زمن "المتاهة".
كصانعة ماهرة في فن القصة القصيرة تمكنت سناء عون من القبض على اللحظة القصصية بجدارة، بعيدًا عن الاستطراد كثيرًا في أحداث جانبية
وتكتب قصتها بلغة بسيطة واقعية تخدم هدفها وحبكتها على أمثل وجه وتنأى بذلك عن التزويقات والبلاغات التي ستبدو مستهجنة في قصة قصيرة تستكشف التفاصيل. فتطاوعها هذه اللغة لتؤكد على "اليومي" وتشحنه بمفرداته وإيحاءاته. كما أنها تلجأ إلى التكرار لتعيد المتلقي مرة تلو الأخرى إلى الحبكة كأنها تشد انتباهه إلى مشاعر الراوية/الشاهدة في مواقف مختلفة وتضفي على قصتها المزيد من الحيوية: "الصبي الشقي"، "الصبي الأزعر"، "راحت الدراجة تفقد أجزاءها" و"راحت الدراجة تفقد جسدها قطعة قطعة". وهذا ما يغفر لها عثرات خفيفة حين تلجأ إلى مفردات خارجة عن السياق اللغوي العام على غرار "أرمق"، "السابلة"، أو حين تبادل بين فعلي "ركل" و"رفس" أو تكثر من الوصف.
اقرأ/ي أيضًا: "الرخيصة والرخيص" لعارف حجاوي.. قصص قصيرة حقًّا
كصانعة ماهرة في فن القصة القصيرة تمكنت سناء عون من القبض على اللحظة القصصية بجدارة، بعيدًا عن الاستطراد كثيرًا في أحداث جانبية لن تخدم بناء قصتها، ولهذا تمسكت بالحدث الصغير ودارت حول مركزه كي لا تتسع الدائرة أكثر مما يلزم وتفلت الحبكة.
اقرأ/ي أيضًا: