وضع النقاد الكثير من الأطر التي من شأنها تحليل الحياة النفسية الداخلية للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث (1932 - 1963)، في محاولة ربطها مع الطاقة التدميرية التي حفلت بها أعمالها الأدبية الموسومة بالتشاؤم والسوداوية.
بعد أكثر من 65 عامًا على وفاة سيلفيا بلاث، ما زالت أعمالها الشعرية تُحظى بالقراءات المفتونة والتحليلات العميقة
هل كونها أنثى كان جزءًا من التعاسة التي شعرت بها؟ أم كانت تجربة العيش في خمسينيات القرن العشرين هو الأمر الذي قوّض دعائم الصدمة النفسية؟ كيف تمظهرت تلك العبقرية الشعرية وسط حياة عقلية غير مستقرة؟
اقرأ/ي أيضًا: سوزان عليوان.. خفوت النبرة وهاجس التعبير
بعد أكثر من 65 عامًا على وفاتها، ما زالت أعمالها الشعرية تُحظى بالقراءات المفتونة والتحليلات العميقة، إنّها شخصية شعرية كما يصفها البعض، شعرها صادق ومؤلم، كما أنها مؤلفة قصص قصيرة وكاتبة مقالات وكتب للأطفال، رصيدها في عالم الرواية قليل إلاّ أنه مؤثر، فقد وظفت بلاث الكتابة في خدمة الحالات النفسية، لذلك سمحت أعمالها بإلقاء نظرة مختلفة على الاكتئاب والاضطرابات النفسية.
احتفل محرك البحث غوغل يوم الأحد 27 تشرين أول/أكتوبر بذكرى ميلاد الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، وقد قدمها شعار غوغل شابة مرحة تقرأ الشعر في أجواء شتوية، تخالها لوحة تنبئ بقدوم فصل الشتاء، بعيدة كل البعد عن عمق شخصية الشاعرة. ولكن بعيدًا عن هذا يعتقد البعض بأن شهرتها جاءت من طريقة انتحارها، فقد أدخلت بلاث رأسها في الفرن بعد أن ملأته بالغاز وتأكدت من أن كل المخارج مسدودة. من قلب هذه الطبيعة التدميرية بدأت تجربتها الشعريّة، فتاة متمردة تشاؤمية، تغص عوالمها الداخلية بالصور الشعرية والعكس صحيح، فيأخذ الشعر مع بلاث موقفًا من الحياة.
الناقوس الزجاجي الذي صوّر حياتها
ظهرت آثار مرض الاكتئاب السريري الذي كانت تعاني منه بلاث في شخصية آيستر جرينوود بطلة عملها الروائي الوحيد الناقوس الزجاجي، صدر بالنسخة العربية عام 2011 بترجمة توفيق سخان عن "مشروع كلمة". هذا الناقوس الزجاجي ظل دائم الرنين في حياة بلاث التي تعبر من خلال خطاب الشخصية عن نفسها، فتتحدث عبر مستويين، حوار مع الآخرين، تظهر من خلالها أنها طموحة مرحة، وصورة أخرى تأتينا عبر صوت الراوي، صورة فتاة قلقة وكئيبة.
نشأت سيلفيا بلاث في الولايات المتحدة مع والدها الذي كان أستاذًا للغة الألمانية والبيولوجيا، توفي نتيجة إصابته بالغرغرينا في عام 1940، وهذه كانت أول صدمة للطفلة وقادتها إلى أول مراحل الاكتئاب. دخلت إلى كلية سميث في عام 1950 وعملت في أطروحة تخرجها على الشخصيات الثنائية في أعمال فيودور دوستويفسكي، وركَّزت بلاث، في أطروحتها على عملين هما "الشبيه" و"الأخوة كارامازوف"، وقد استفادت بلاث من تلك الدراسة في رسم عوالم شخصية بطلة روايتها.
وصفت سيلفيا بلاث نفسها كما جاء في رواية الناقوس الزجاجي بشجرةٍ كبيرةٍ، وتقول: "من طرف كل غصن، كحبة تينٍ مكتنزة، ينادي مستقبل رائع ويغمز.. أن أختار واحدًا يعني أن أخسر الباقي، بينما أنا جالسة هناك، عاجزة عن الاختيار، تجعد التين، واسوّد لونه، وتساقط على الأرض واحدًا تلو الآخر عند قدميّ." هذه الفتاة الصغيرة التي تتخيل مستقبلًا غامضًا، تتحدث عن الخوف الشامل والقلق الذي يحيط بكل أمر، تتحدث عن العجز واتخاذ القرار الخاطئ. سيلفيا بلاث التي عاشت حياةً قصيرة، راح معظمها في عيادات الطب النفسي، والصدمات الكهربائية اختارت الشعر لتعبر من خلاله عن رؤيتها للعالم وتوصف شكل التجربة التي تعيشها.
استلهامات نفسية وعلاقة مع الطبيعة
بحميميةٍ مفرطة وحضور طاغٍ للأنا الشخصية رسمت بلاث ملامح تجربتها الشعرية، مع محاولة الالتحام بالطبيعة التي فسحت لها المجال بأن ترى نفسها من خلالها، فنرى بأن العوالم الشعريّة لبلاث مكونة من الأشجار والأحجار والتي جاءت بها ربما من العوالم المكانيّة للرواية الأقرب لها "مرتفعات وذرينغ" للكاتبة البريطانية إيميلي برونتي. يتحدث الكثير من النقاد عن هيام بلاث بالرواية وبكاتبتها التي انتحرت أيضًا في عمر الثلاثين. نعتقد ربما بأنه من المجدي البقاء بعيدًا عن قصة الانتحار كي لا نختزل تجربة الشاعرة وحياتها بالطريقة التي اختارتها لتنهي بها مآسيها، ولكن ذلك الفعل يتمظهر بشكلٍ كبير في الأعمال الشعرية والعمل الروائي، وكتاب مذكراتها الذي نُشر بعد وفاتها، صدرت النسخة العربية منه تحت عنوان سيلفيا بلاث اليوميات 1959-1960 ترجمة عباس المفرجي، صادر عن "دار المدى" عام 2017. فلا يمكن فصل التجربة الأدبية لسيلفيا بلاث عن كل ما كانت تعيشه، ومن المصير الذي ساقت إليه حياتها والذي يأتينا من صلب أعمالها الإبداعية القاسية والعدمية.
بحميميةٍ مفرطة وحضور طاغٍ للأنا الشخصية رسمت سيلفيا بلاث ملامح تجربتها الشعرية
تنمو فكرة الموت وتكبر عند سيلفيا بلاث، فهو تجربة فكرية تنبؤية. كتبت عن الموت مرارًا، وعبرت من خلاله عن تصوراتها للحياة والحب، كذلك كانت على احتكاكٍ معه بمحاولتي انتحار نُقلت بسببها إلى مصحة للأمراض النفسية. لذلك لا يمكن اختزال حياتها القصيرة بفعل الانتحار، الموت في أعمالها هو أشبه بالتصور المستقبلي المتولد لحياتها.
اقرأ/ي أيضًا: نهارٌ كامل في مقبرة الشِعر
كتبت في أول ديوانٍ لها بعنوان "التمثال الشامخ" عن الشعور بالعدمية، ولعبت بصفات الألوان ومعانيها محاولةً أن تجد عزاءها في معاني اللون الأزرق والأبيض، وانعكاسهما في بحيرةٍ أو على الغيوم، تتنفس الطبيعة ذلك الشعور بالعدمية أيضًا، فالضباب الأزرق يجر البحيرة، والزهور البيضاء تتحلق وتسقط، في مثل هذه الاستيهامات العدمية السوداوية كتبت العديد من دواوينها الأخرى التي ظهرت فيها الطاقة الإبداعية الشعرية.
نُشر بعد موتها ديوان آرييل (Ariel) كانت قد كتبته قبل أشهر من إقدامها على الانتحار. رفع هذا الديوان عبر اللغة الصارمة والمباشرة الغطاء عن قضايا الصدمة والهوس والاكتئاب، كذلك الجنسانية والهوية والمواضيع النفسية، كما أنه مولع بتأملات حول الحزن والوحدة والإبداع. في قصيدة بعنوان "ركودٌ في الظلام"، تصف بلاث امتطاء فرسٍ في الصباح الباكر، في واحدة من تعابيرها عن الإبداع الحر، وتأملات تشاؤمية أخرى من ذلك اللون الأزرق الباهت الذي يغطي المسافات، ومجازات لغوية تستخدمها لوصف بكاء الطفل الذي يشق الجدار. أرادت أن تعبر عن نفسها عبر ابتكار الصور الشعرية، فقد تحولت كلماتها إلى صور مفصلة لمخاوفها، تماثيل في متاحف كبيرة، ظلال في المرايا، أحجار وأشباح، هذه المواد التي تشكل منها ذات الشاعرة في شعرها، أو كما أرادت لها أن تكون عبر الشعر.
الموت في أعمال سيلفيا بلاث هو أشبه بالتصور المستقبلي المتولد لحياتها
هناك افتراض مدفوع بالشائعات يقول بأن معاناتها المنزلية مع زوجها الشاعر تيد هيوز أثرت كثيرًا في عملها الشعري، هذه القضية اعتبرتها الموجة النسوية الثانية التي ظهرت في السبعينيات من القرن العشرين، واحدة من قضاياها المحقة، والتي طالبت باتهام زوجها بدفعها للانتحار، وهذا الافتراض من وجهة نظري، يسخف من تعقيدات الحياة الإنسانية كما من شأنه الضرر بخصوصية شخصية بلاث الإنسانة والشاعرة، والتي تجمع بين الإبداع والمرض النفسي. تقوم أعمالها على الصدمة والاضطرابات النفسية التي كانت تشكل المشهد الداخلي لها وتنعكس في أعمالها الشعريّة. تلك الثنائيات خلقت عالمها الفريد، لأن بلاث بدأت من سن السابعة عشر ترى نفسها كائنًا غريبًا عن نفسه ويعيش معها.
اقرأ/ي أيضًا: عبير خليفة في "أن تُكرّر الأخطاء نفسها".. القليل من العاطفة والكثير من التأمّل
أعمالها التي نُشرت بعد وفاتها تعتبر من الأعمال الشعريّة المؤثرة في التجربة الشعريّة في القرن العشرين، على الرغم من استحواذ الصدمة النفسية والكآبة على المزاج الشعري لها، وبذلك وكأن بلاث تجعل من قارئها شاهدًا على تعاسة حياتها التي صعب فيها الاختيار، والأهم من ذلك يشهد قارئ بلاث على براعة تعبيرها عن حالات نفسية صعبة التفسير.
اقرأ/ي أيضًا: