يعشق الناسُ لاعبَ الكرة الفنان، صاحب المهارة والفطنة، صانع العروض الخلّابة، إلّا في الجزائر يعشقون لاعبًا مُتسلّلًا، كثير الأخطاء، فاقدًا للمهارات تمامًا.
شوشعُ هو اسمه. والذين أحبّوه أحبّوا براءته، ومنحوه ما يحتاجه شخص مثله خالٍ من العقد والنقائص من اهتمام، كي يُحيي فيهم قوة البدايات التي لا يريدون لها أن تنتهي.
عرض كوميدي أصيل بكرة القدم هو ما يقدمه شوشع، فلأنه لا يُجيد اللعب، ولا يلتزم بالقوانين، نراه متسللًا دائمًا، ونرى الفريق الخصم متهاونًا معه، بل ويساعده على تسجيل الهدف في مرماه.
ويستمر العرض مع احتفاله الفريد عند قرع الشِّباك بهدف بالمصادفة، أو بتواطؤ المدافعين وحارس المرمى في الفريق الآخر.
عرض كوميدي أصيل بكرة القدم هو ما يقدمه شوشع، فلأنه لا يُجيد اللعب، ولا يلتزم بالقوانين، نراه متسللًا دائمًا، ونرى الفريق الخصم متهاونًا معه، بل ويساعده على تسجيل الهدف في مرماه
يعود ذلك، على الأرجح، إلى أن الرجل ينتمي إلى مساكين هذه الأرض، وهؤلاء إن مثّلوا شيئًا فهم يمثلون لاوعي الناس في زمانهم، لأنهم يقولون ما لا يجرؤ أحد على قوله، وتكون لديهم قابلية استثنائية للرقص أو الغناء طوال الوقت، إلى جانب أنهم يتمتعون بحسّ فكاهة عال. وشوشع الذي لا يحظى بشيء من ذلك كلّه، يجعل لعبةً مشوقةً مثل كرة القدم مسرحًا كوميديًّا، ويقلب ليس مناخها وقوانينها وحسب، حين يلغي البراعة ويصر على تقديم أسوأ لعب ممكن، حتى أن قدميه لا تقيمان علاقةً طيبةً مع الكرة التي كثيرًا ما تهرب منه، أو يعجز عن السيطرة عليها؛ بل يقلب الغاية من اللعبة كلها، فحيث تهدف اللعبة في العالم كله إلى الفوز، يغدو المطلوب معه هو الخسارة، لأنها الأجمل والأصدق، والأشد واقعيةً، وكأنها اعترافنا بما نحن فيه، وإقرارنا لما نحن عليه.
ما الذي يجعل الجزائريين واقعين في حبّه؟ أهي شهرته، طرافته، مَسْكَنَتُه؟ لا يكفي ذلك للإجابة، ففي الجزائر كما في غيرها من البلدان من المشاهير والظرفاء ما لا يتيح لشوشع منافستهم حتى لو في المنام. إذًا أغلب الظن أنهم وجدوا فيه ما وجدته الثقافة العربية في شخصية البهلول، والذي كثيرًا ما صوّرته في صور متنوعة، متضاربة أحيانًا، إذ يظهر بوصفه الأكثر حكمة ونبلًا، أو الأكثر وشجاعة، بل وتهورًا، بما يُحرج فرسان زمانه، كما يتجلى ذلك في شخصية جحا، خصوصًا في الجزئية التي يمتزج فيها العقل بالجنون، وتكون المواقف العدمية المتتالية تأكيدًا على أن الحكمة، بوصفها قمة العقلانية، ليست في آخر الأمر سوى فقدان العقل نفسه.
وبالفعل، حظيت طائفة العقلاء المجانين باهتمام ورعاية الجميع، ومن هؤلاء: جحا، والبهلول، وماني، وخالد الكاتب، ومجنون ديراكي، وسيبويه المصري. وعن الأخير كتب أحمد أمين في "فيض الخاطر": "كانت شخصية تُرْهَب وتُحَبّ، ويُضحك منها، ويُعتبر بها، إن شئت علمًا فعالم، أو شعرًا فشاعر، أو أدبًا فأديب، أو وعظًا فواعظ، أو فكاهة ففَكِه، أو نقدًا مقذعًا فناقد، أو جنونًا فمجنون".
مثّل هؤلاء شكلًا من أشكال التمرد على السلطة ونخبها وأعيانها، وعلى اللاعدالة في تمثيل العاديين من الناس الذين كثيرًا ما حجب التاريخ حضورهم عن مسرحه بلا خجل أو ندم. وبهذه الهبّات الثورية التي تحدث مع قدوم كل واحد منهم كانوا ينتزعون المكان الذي يستحقونه في التاريخ والمخيلة الشعبية. يقولون ويفعلون ما لا يقوى أحد على قوله. يُغيّرون المنطق فيجعلون الحكمة جنونًا، والجنون حكمةً. هم المعارضة الطبيعية للأعراف السائدة، ولأنظمة الحكم في سياقاتها التاريخية المختلفة، حتى باتوا يُمثلون مراحلهم التاريخية أكثر من المُكرسين فيها من أصحاب المكانة، لأنهم إذ يصعدون من الهوامش يجلبون معهم الصوتَ المغيّب والإحساسَ العميق باللاعدالة وقوةَ السخرية.
لا ينفي هذا الاحتفاءُ التنمرَ المؤذي الذي يواجهه شوشع ومن سواه من أصحاب الإعاقة، لا سيما مع النظرة المشوبة بالعار للنساء منهم، اللواتي يجدن أنفسهن في عالمٍ يسعى لإخفائهن، لأنّ امرأة في حالة من الاضطراب النفسي أو العقلي تقدم لذويها عارًا مضاعفًا.
يقع شوشع في قلب خارطة هذا العالم التي رسمها جحا ومجنون ليلى. وكرة القدم هي كلامُه اليومي، وبيانُه السياسي في حضرة السلطان، وكأنه يقول: لا نحتاج إلى نجوم، ليس كل شيء يتعلّق بالمهارة، كم نحتاج الى الاحتفاء بالتعثر والاضطراب، وكم يُعبّر ذلك عنا، لأننا جميعًا كذلك، أما البراعة وأهلها فاستثناء.
في النهاية، أساطير بيليه ومارادونا وميسي ورونالدو.. تخصهم وحدهم، وترتبط بفردانيتهم، بينما أساطير الهامشيين تخصّ روح البلدان، لأّن كلًّا منهم قادر على تمثيل الصورة العامة للبلاد واختصارها كما تفعل الرموز والأساطير، وشوشع خلاصةُ المغلوبين، وتشخيص الخسارة، في أشدِّ المفارقات سخريةً، على مساحة مخصصة للاحتفاء بالربح والفوز. ومثلما جاء المأثورات الراسخة عن أسلافه من المُهمَّشين حيث تداخل الخيال بالحقيقة، فهو أيضًا ليس نفسه تمامًا بل مجاز شعب في لحظة مظلمة، لا تختلف في حلكتها عن اللحظات التي ولّدت فيها المخيلة الشعبية القديمة أسلافَه بوصفهم مرافعةً ضدّ سوء الأحوال وجور السلطة، وحبًّا بالبراءة الطفولية التي تقول ما يجب أن يقال.
لأجل هذا بالضبط تُحبُّ الجزائر شوشعَها.
