غالبًا ما تتمُّ قراءةُ كتبِ الطّغاة بدافعِ الفضول الشّخصيّ. فضولٌ ينحو في أغلبه نحو الطّغاة لا نحو الكتب نفسها. فيصبح بعضها من الكتب الأكثر مبيعًا حتّى مع أنها مجرّد كتب تنظيريّة بسيطة، أو مجرّد دفاتر أدبيّة متواضعة في اللغة وفي الأسلوب أيضًا.
حياة الطّغاة ليست حياة عادية، إنّها حياة تقومُ على التحكم بمصائر الشعوب ومقدّراتهم، بأرواحهم وأحلامهم أيضًا، وبمعنى ما فإنها أكثر غنى من حياة الشّعراء والروائيين العظام في العالم. وبالطبع حتى لو ألّف بعض الطغاة كتبًا قبل تولّيهم سدّة الحكم، فإنّ بعضهم لم يُعرَفوا ككتّاب إلّا بعد بروزهم كطغاة.
حياة الطّغاة ليست حياة عادية، إنّها حياة تقومُ على التحكم بمصائر الشعوب ومقدّراتهم، بأرواحهم وأحلامهم أيضًا
من هؤلاء الطاغية القادم من قرية العوجة، صدام حسين ذو الأصول المشكوك بها. الفتى الّذي حلم بأن يصير إلهًا خالدًا وحاول أن يعيد نسبه إلى سلالة النبي محمد.
على غرار ستالين الذي اعتبر الكاتب مهندس الروح البشرية. رأى صدام حسين "القلم والبندقية فوهة واحدة" واهتمّ بالأدب، ولا ننسى أيضًا أنّ صدّام يتشارك ذلك الطّموح الأدبي مع خير الله طلفاح، والد ساجدة زوجته، الذي كان قد ألّف كتيبًا حمل عنوان "ثلاثة كان على الله أن لا يخلقهم: الفرس واليهود والذباب". الكتيب الذي يتألف من عشر صفحات فقط، نشر لأول مرة في عام 1940، لكن بعد بدء الحرب العراقية الإيرانية، أعادت دار النشر التابعة للحكومة العراقية "دار الحرية" نشره، ووزّعت وزارة التربية العراقيّة الدعاية كجزء من كتاب لأطفال المدارس.
طلفاح الذي كان مسؤولًا في البعث وصار فيما بعد محافظًا لبغداد، يصف الفرس "بأنهم حيوانات خلقها الله في شكل بشر. ويكمل واصفًا اليهود بأنّهم مزيج من الوسخ ومخلفات من شعوب مختلفة؛ أما الذباب كمخلوقات يسيء الجميع فهمها والّتي لا نفهم ما غرض الله من خلقها، وبالتالي فالذباب أقلّ ضررًا من اليهود والفرس. ويالهذه التحليلات!
وإذا كان فرناندو بيسوا، الكاتب الشّهير، قد ألف كتبه بأسماء بديلة، فإن صدّام ترك روايته دون أسماء فنقرأ على أغلفة روايته العبارة ذاتها "رواية لكاتبها"، وهي إشارة إلى اعتبار أنّ صدام ليس مؤلّفًا بمقدار ما هو ضمير للأمّة، وإن لم يقل ذلك فإنه قصده. والمفارقة أنّ ذلك ليس بالشيء الغريب فقد سبقه إلى ذلك هتلر حين كان يؤلف كتابه كفاحي مصرّحًا أنّه "ليس كاتبًا".
بدأ "الرّوائي" صدام -مع التّشديد هنا على كلمة روائي- بكتابة روايته "زبيبة والملك" سنة 2000، أي قبل ثلاث سنوات من العثور عليه داخل حفرة بلحية ماركسية كثّة.
وبالعودة لمترجمه الخاص سعدون الزببدي، فإنّ هذه الرواية هي نتاج قصة حب جمعت صدام مع بنت أحد مستشاريه البالغة من العمر 24 عامًا، والّتي أصبحت زوجته الرّابعة فيما بعد رغم أنّه يكبرها بتسعة وثلاثين عامًا.
صدّام حسين الذي كان قد التقى بالفعل في وقت سابق من نفس العام ببعض الروائيين والكتاب المسرحيين العراقيين، وحفّزهم على كتابة المزيد من الروايات والمسرحيات التي تجسد بطولات معركة "أم المعارك"، المشهورة دوليًا باسم حرب الخليج الثانية، حاول تحقيق الأمر بنفسه عبر تأليف رواية تجمع بين الحديث عن بطولات العراق وتلمّح لجزء من حياته الشخصية. ومع أنّ الرواية كتبت بأسلوب لغوي متواضع؛ كي لا نقول ركيكًا، فإن ثمة شكوك بأنه ليس مؤلفها، اتهامات اتجهت بعضها إلى أن الرواية من تأليف الكاتب والصحافي المصري جمال الغيطاني، وكان مما أيد تلك الشكوك هو أن الغيطاني كان قد ألف كتابًا بعنوان "حراس البوابة الشرقية" عام 1975، وهو الاسم الذي أطلق فيما بعد على الجيش العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
فيما اتهمت زوجة القاص العراقي سامي محمد المخابرات باغتيال زوجها واعتبرته هو المؤلف الحقيقي للرواية، مدعية بأن زوجها لم يمت ميتة طبيعة إنما قتل في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر سنة 2002، حالما انتهى من كتابة الرواية وقبل طبعها للحفاظ على أسرار العمل وكتابته.
وكما اعتبر الكتاب الأحمر الصغير أو اقتباسات من ماو تسي الأعلى الكتب مبيعًا على الإطلاق وقد طُبع منه أكثر من 800 مليون نسخة، حتى وصل عدد النسخ إلى المليار نسخة تقريبًا، ليدخل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية؛ أصبحت رواية صدام على الفور من أعلى الكتب مبيعًا في العراق رغم تكلفتها الضئيلة التي لم تتجاوز 1500 دينار عراقي، أي ما يقارب الدولار الأمريكي الواحد. وقد نوّه الناشر على الغلاف الخلفي للرواية بأن عائدات بيعها ستذهب بالكامل إلى المحتاجين، والجمعيات الخيرية الأخرى وهو التنويه الذي سيضعه الناشر لاحقًا على روايات صدام الأخرى أيضًا.
بدأ "الرّوائي" صدام -مع التّشديد هنا على كلمة روائي- بكتابة روايته "زبيبة والملك" سنة 2000، أي قبل ثلاث سنوات من العثور عليه داخل حفرة بلحية ماركسية كثّة
يخبرنا سعدون الزبيدي أنّ صدام في أيامه الأخيرة صار يحبس نفسه في مكتبته يكتب ويقرأ. بمعنى آخر يقدّم لنا صورة أخرى لصدام المؤلف الذي يجد نفسه ملزمًا بمواصلة مسيرته الابداعية عبر رواية "القلعة الحصينة"، وهي التي تحمل استعارات سياسية، الرواية الضخمة التي تتألف من 713 صفحة والتي نشرت عام 2001، بدت عملًا رمزيًا حيث كانت القصة تستند إلى زفاف بطل عراقيّ مؤجّل قاتل في الحرب ضد إيران.
أما رواية "اخرج منها يا ملعون" التي كتبها "الرئيس" ما بين عام 2002 و2003، والتي تعتبر آخر أعماله الأدبية فقد ترجمت إلى لغات أجنبية، منها اللغة اليابانية والتركية والألمانية، كما حاولت ابنته رغد نشر الرواية في الأردن بنحو 100 ألف نسخة.
الرواية التي أنهى الناشر طبعها قبل ساعات من توقف القتال بين القوات الأمريكية والجيش العراقي بدا عنوانها توبيخًا وهجاءً شديدًا لقوات الاحتلال، التي استطاعت فيما بعد إخراج المؤلّف من حفرته وتسليمه إلى محكمة عراقية قامت بمحاكمته علنًا ثم الحكم عليه بالإعدام، فجر يوم السبت 30 أيلول/ديسمبر من عام 2006، بمشهد مازال يثير الجدل بين القراء فيجده بعضهم إهانة لحاكم عربي، ويراه الآخرون نهاية حتمية للمؤلف الذي ساق البلاد ومقدراتها إلى جحيمه الشخصي.
المشهد الذي تمّ تصويره بكاميرا هاتف محمول يظهر فيه المؤلف الحقيقي أو الزائف وهو يقترب من المقصلة مرددًا "لا إله الا الله، محمد رسول الله" يسقط بعدها ميتًا، لكن موته هو الآخر سيظل بالنسبة لعدد من العراقيين أمرًا مشكوكًا به مثل كتابته للروايات ومثل تاريخ ولادته أيضًا.
ما يمكن سوقه في نهاية الكلام هو ذلك الاعتقاد البسيط الذي يمكننا تلخيصه بجملة مختزلة: "ثمّة كاتب خفيّ يكتب للطاغية أعماله، ثمة شبيه يموت من أجله أيضًا!".