في الأساطير الإغريقية، من الممكن فرز اسم الإله كرونوس كأول أب متوحش شرير. كان كرونوس أول من يأكل أولاده ويبتلعهم بسبب نبوءة من أبويه أيضًا.
أورانوس قد حذّر ابنه كرونوس من أن أحد أولاده سيقوم بقتله وخلعه من عرشه. قتل كرونوس أولاده الخمسة بناءً على لعنة أو تحذير والده، ولم ينج من الأولاد سوى زيوس بمساعدة أمه. زيوس الذي قتل أباه كرونوس بمساعدة إخوته بعد أن استخرجهم من بطن أبيه.
قوة الأسطورة التي كانت تعد كالكتب السماوية الآن، نقلت روح الآلهة اليونانية نحو البشر، نحو المسرح
من الممكن عد القصص الكثيرة عن قتل الأب لأولاده في الأساطير اليونانية - تانتالوس مثلًا ذبح ابنه وقدمه طعامًا للآلهة - قصصًا عن السيطرة أو السطوة الإلهية. إنه أمر مبرر في ذاك الوقت، حيث لم يكن مفهوم الأبوة بمعناه الحالي فعالًا وخاضعًا لتبادل الآراء.
اقرأ/ي أيضًا: تشارلز ديكنز.. من أين نبدأ؟
كانت الأساطير تكتب أن الآلهة يُمكن أن تقتل أولادها وتقدمهم أضاحي لتقوية وزيادة نفوذها وقوتها. أو حتى تجد الأجيال القادمة شيئًا تحكيه. قوة الأسطورة التي كانت تعد كالكتب السماوية الآن، نقلت روح الآلهة اليونانية نحو البشر، نحو المسرح.
إن لايوس في مسرحية سوفوكليس "أوديب ملكًا" ضحى بأوديب قاصدًا قتله لأن العرافة أخبرته أنه سيولد له ولد يقتله وينتزع منه عرشه ويتزوج أمه. تقول يوكاستا لأوديب: "أما بالنسبة للطفل وقبل أن يمر على مولده ثلاثة أيام، أوثق الملك قدميه، وعهد إلى أحد الأشخاص بإلقائه في جبل مهجور".
وفي ذلك الوقت ظل الرجل كأب، في محاولاته التشبه بالآلهة، لا يُنظر له كأب عطوف، ولا قيمة مهمة لما يحققه داخل بيته، إنما قيمته تتحدد بما يفعله في الخارج، حيث البطولة والقتل والغزو والحرب. كان لايوس شبيهًا بالآلهة التي تضحي بأولادها من أجل استمرار الملك والسلطة.
لكن، هل نجد أبًا في الميثولوجيا ضحّى من أجل أولاده؟
إن الإنسان، أو المخلوق الفاني هو فقط من يُضحى من أجل أولاده، فيموت من أجل بقائهم، والأولاد يضحون من أجل أولادهم، وبرغم أن سلسلة التضحيات هذه لا تنتهي، إلا أن هذا هو مصير البشر. لكن الآلهة لا تموت بشكل نهائي. ولذا هي لا تُضّحي من أجل أحد ما.
بعد قرون مديدة سيكتب كافكا "إن الأسرة المحدودة بالسلطة الأبوية، لا تتسع إلا لكائنات محدودة، كائنات منصاعة لمطالب محددة، فإن لم تستجب هذه الكائنات لهذه المطالب كان مصيرها اللعنة أو الالتهام".
وعلى تاريخ الأسطورة والأدب الممتد من زمن كرونوس وحتى زمن كافكا وما بعده – إلا ما ندر – كان الأب في الأدب مخلوقًا سيئًا. أو محرّضًا، أو شريرًا، غير مهتم بأبنائه، أو ضحية قُتل قبل أن يمارس دور الأبوة، أو باحتمال أفضل كان أبًا بلا صوت أو من دون عائلة.
الآلهة لا تموت بشكل نهائي. ولذا هي لا تُضّحي من أجل أحد ما
لكنني لا أعني قطعًا أن هناك تعمّدًا أو قصديّة لشيطنة الأب أو إظهاره بمظهر سيء أو ضعيف. وسأحاول نقل الواقع الأدبي كما هو مكتوب لا أكثر، وبغض النظر عن نوايا المؤلفين الكبار.
اقرأ/ي أيضًا: توم كريستينسن.. ما الذي يبني الحياة؟ ما الذي يهدمها؟
بنظرة عامّة على مسرح شكسبير وريث المسرح الإغريقي، يظهر في مسرحية هاملت شبح الأب الذي لم يُمارس دور الأبوة على ابنه، بل كان شبحًا محرضًا داعيًا للثأر والانتقام، ومُدخلًا هاملت الابن في هذه الدوامة التي ستنتهي بمقتله.
يقول شبح الأب لهاملت ملقيًا عليه كلمات تدفع للانتقام "إن لم تتحرك لمثل هذا الخطب لأنت أشد بلادة من العشب الغليظ الذي يسري فيه العفن على شاطئ نهر".
يُلقي الأب هذه الكلمات ويختفي من المسرح ومن حياة هاملت الابن أيضًا.
لكن أية كلمات هذه وجهها قلب هذا الأب لابنه، وأي رفض أو تردد بعدها سيكون مبررًا؟ حسنًا. لنستعد هنا مقولة كافكا السابقة "فإن لم تستجب هذه الكائنات لهذه المطالب كان مصيرها اللعنة أو الالتهام".
بعد سنوات، يكتب شكسبير رائعته "الملك لير" وفي أحد الحوارات تتحدد العلاقة بين لير وبناته على لسان البهلول "بنات يشأن أن يجعلن منك أبًا مطيعًا".
لكن قبل وصف البهلول لبنات الملك، لم تكن شخصية لير الأب شخصية سويّة، كان أبًا نزقًا محبًا للمديح ومنافقته، ولم يكن يحمل شيئًا من حكمة الملوك، لذلك لم يعط ابنته الصغرى التي تحبه أي نصيب في مملكته، لأنها ببساطة لم تنافقه.
ناقش سرڤانتس على لسان دون كيخوته أغلب الأفكار الأخلاقية، لكنه لم يتطرق أبدًا لفكرة العائلة
لنعد مرة أخرى لجملة البهلول "بنات يشأن أن يجعلن منك أبًا مطيعًا". وسنلاحظ تغير شكل الأب عند شكسبير بين المسرحيتين، أعني هاملت ولير، في الأولى كان الأب قويًا ومحرضًا لابنه على أخذ ثأره، بينما في الثانية كان الأب لير برغم مقاومته العنيفة، مهزومًا من ابنتيه اللتين تحاولان السيطرة عليه. وفي الحالتين تنتهي المسرحيتين بمقتل عائلتي الأبوين حيث يقضي بعضهم على الآخر.
اقرأ/ي أيضًا: "قطارات تحت الحراسة المشدّدة".. أن تعرف نفسك بالموت
وعلى زمن قريب من كتابة الملك لير، كتب سرڤانتس روايته الخالدة دون كيخوته، كان الدون نموذجًا للأخلاق الجيدة والشرف والإيثار بنفسه خدمة للآخرين، لكنه أبدًا لم يكن أبًا، بل لم يحلم مرّة في أن يكون أبًا. ناقش سرڤانتس على لسان دون كيخوته أغلب الأفكار الأخلاقية، لكنه لم يتطرق أبدًا لفكرة العائلة. كان الدون مهمومًا مثل نبي بالعائلة الأكبر، بالبشرية. وبالتجول لنشر الخير ومحاربة من يراهم ظالمين وأشرارًا، لذا لم تثره فكرة العائلة الصغيرة التي تعني بطبيعة الحال إلتزام البيت والتخلي عن الفروسية الجوالة.
ماذا عن سنشو بنثا، ألم يأخذ دور أب في الرواية؟ إذا نظرنا جيدًا سنجد سنشو بانثا قد أخذ دور الأب، لكنه أب يترك عائلته وينطلق خلف سيده طمعًا في جمع المال أو الحصول على ثروة. كان اللقاء الوحيد لعائلة سنشو خلال عودته من رحلته الطويلة مع الدون لقاءً لا يليق بأب غائب "وعانقت سنتشيكا أباها، وسألته هل أتاها بهدية؟".
لكن برغم أن سرڤانتس لم يكتب عن الأب في دون كيخوته، إلا إنني أستطيع أن أقول إن النظرة بعده للأب قد تغيرت بشكل ما. فلم يعد ذاك الأب القاتل كما في الأساطير أو المحرض كما في هاملت، لكن روح ترويضه كما في الملك لير، بقيت تقاوم حتى الآن.
في القرن التاسع عشر، بالتحديد عام 1813، كتبت جين أوستن رواية كبرياء وهوى، في الصفحات الأولى يطلق السيد بينيت جملة عن رؤيته لبناته "إنهن كلهن سخيفات وفارغات الرؤوس، قدر البنات الأخريات، إلا أن ليزي أذكى من أخواتها".
وعلى مر أحداث الرواية، لم يكن السيد بينيت أبًا ذا دور مهم في الأحداث، لم يكن صانعًا إيجابيًا أو حتى سلبيًا لها. بالأصح كان أبًا فاقد القدرة على إدارة البيت، لكنه مع ذلك لم يكن أبًا شريرًا.
كان القرن التاسع عشر - باستثناء الأب كارامازوف - قرنًا رحيمًا بصورة الأب في الأدب، حيث بدأ يظهر بصورته الطيبة في الغالب
في عام 1834، كتب بلزاك رواية الأب جوريو، ظهرت شخصية الأب المُضحية بنفسها هذه المرة، كان الأب يبذل كل جهده، صحته وماله، لسعادة ابنتيه، حتى مات وحيدًا من أجل أن تعيش البنتين النزقتين في مستوى معاشي ممتاز، ولم يطمع في المقابل بأي شيء سوى بحبهما الذي لم ينله. فيموت في النزل وحيدًا.
لكن جوريو، برغم طيبة أبوته، لم يخرج من كونه أبًا ضعيفًا خاضعًا لرغبات بناته، ولم يقاوم حتى بكلمة، كما فعل سابقًا الملك لير.
اقرأ/ي أيضًا: الكتابة ومساوئ التصنيف
أما تشارلز ديكنز، في رواية ترنيمة عيد الميلاد التي كتبها عام 1834 أيضًا، ومن خلال شخصية مساعد سكروج الكاتب بوب كراتشيت، بدا أن هناك تحسنًا ملحوظًا في صورة الأب. كان كراتشيب أبًا جيدًا ولأول مرة بالمعنى الإيجابي للكلمة.
كان ديكنز بصورة عامة كاتبًا أخلاقيًا محبًا للأب، حيث جعل الدكتور مانيت في رواية قصة مدينتين شخصية أب محب لابنته. ومع أنه ليس بأب حقيقي، فإنني لا أستطيع تجاوز جان ڤالجان في البؤساء التي كُتبت عام 1862، لأنه بالفعل كان يحمل كل مشاعر الأبوة الصادقة تجاه كوزيت. كان جان ڤالجان أبًا لكنه ومع الأسف بلا عائلة أو أولاد.
لننتقل الآن نحو روسيا، حيث سيكتب ايڤان تورغنيف روايته الآباء والبنون في العام 1860، تتحدث الرواية عن صراع بين جيلي الآباء والأبناء بشكل ظاهري، لكنه في الحقيقة صراع اجتماعي يمتد ليغطي روسيا بجيلها الارستقراطي المتمثل بالآباء وجيل الأبناء الديمقراطي. لكن ما يهمني هو رسم شخصية الأب. وأستطيع أن الخّص العلاقة بين آركادي وأبيه من خلال هذا النص "عاد بيوتر إلى العربة، وسلمه مع علبة الثقاب سيجارًا قاتمًا غليظًا، دخنه آركادي في الحال وصار ينفث حواليه دخان التبغ العتيق، ففاحت رائحة حادة لاذعة جعلت نيكولاي بتروفيتش الذي لم يجرب التدخين ولا مرة في حياته يشيح بوجهه عفويًا، ولكن بصورة غير ملحوظة كيلا يغيض ابنه".
أعتقد أن صورة الأب المضحي الطيب واضحة جدًا عند تورغنيف بشكل لا لبس فيه.
لكن القرن التاسع عشر، يأبى أن يمر بسلام على صورة الأب في الأدب، ففي العام 1880 يكتب الروائي الروسي ديستويفسكي رواية الإخوة كارامازوف. وفيها فيودور كارامازوف ذلك الأب الشهواني النزق الشرير بمعنى الكلمة - يمكن إضافة الكثير من الصفات السلبية له - والذي يتنافس مع ابنه على امرأة، بل ويهدده بالقتل لو تقرب منها. وها نحن مع فيودور كارامازوف نعود من جديد للأب الأسطوري، صانع الدسائس والذي لا يهتم سوى بتلبية رغباته. حتى لو كلفه ذلك قتل أولاده.
بشكل عام كان القرن التاسع عشر - باستثناء الأب كارامازوف - قرنًا رحيمًا بصورة الأب في الأدب، حيث بدأ يظهر بصورته الطيبة في الغالب، حتى وإن كان غير مؤثر وهامشي وغير صانع للحدث. لكن صورة الأب لم تبق على حالها في أدب القرن العشرين، فرياح المؤلفين العاتية، مزقت هذه الصورة التي حاول أدباء القرن التاسع على استحياء تحسينها.
كتب كافكا رواية المسخ، أو التحول، وكان الأب فيها من أبشع الشخصيات
كتب كافكا رواية المسخ، أو التحول، وكان الأب فيها من أبشع الشخصيات. خلال أحداث اليوم الأول - اليوم الذي تحول فيه جريجور لحشرة - يُناقش الأب الوضع المادي للعائلة "ضمن أحداث ذلك اليوم الأول شرح والد جريجور الوضع المالي للأسرة والآمال التي يتعلقون بأذيالها لكل من والدته وشقيقته".
إنني اتساءل عن المشاعر التي يحملها أب أو عائلة تمر بظروف كهذه. وفي الوقت نفسه تستطيع هذه العائلة أن تطبخ وتأكل وتشرب وتُناقش وضعها المادي برغم هذا الحدث المزلزل، حيث لا أحد يهتم بأن سامسا قد تحوّل فعلًا وسيموت كحشرة.
اقرأ/ي أيضًا: إيلينا فيرانتي: "الكتابة موجودة دائمًا.. ملحّة دائمًا"
لنجرب الانتقال نحو المسرح. حيث رائد مسرح العبث برانديللو ومسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" وبرغم أن المسرحية فلسفية وذكية جدًا إلا أن صورة الأب بقيت مشوهة تمامًا.
إحدى شخصيات المسرحية أب، يعرف أن زوجته تخونه ولا يهتم، بل إنه كاد أن يمارس الجنس مع ابنة زوجته في بيت عاهرات.
حسنًا. لا أريد الإكثار من الاستشهادات الأدبية، لكن بالمجمل كان القرن العشرين، وبعد صدمتي الحرب العالمية الأولى والثانية، قرنًا سحب من الأب بوصفه ممثلًا للسلطة العقلانية أغلب أدواره. وعادت روح غونريل وريغان بنات الملك لير ترفرف وبقوة للسيطرة وجعل الأب أبًا مطيعًا، لكن هذه المرة ليس في الأدب فقط بل في الحياة.
أيضًا، لا يمكنني أن أنسى شخصية جاروسلاف في رواية المزحة لكونديرا، ذلك الأب المخدوع من قبل زوجته فلاستا وابنه فلاديمير.
أصبح جاروسلاف غريبًا في بيته الذي لم يكن يحبه "كنت أكرهها وأكره كلّ مطبخها، مطبخها النموذجي الحديث، بأثاثه الحديث، صحونه الحديثة، وكؤوسه الحديثة".
كان غريبًا ليس مع زوجته فحسب، بل مع ابنه أيضًا برغم كل محاولاته التقرب منهما. وتتحدد غربته مع ابنه في أنه سيفقد حتى التواصل اللفظي معه "كان يجتمع دومًا بأصدقاء كي يغنّوا ما لا أدريه من عبارات أميركية مكررة".
هل نتخيل تسلسل صورة الأب في الأدب، من شخص متشبه بالآلهة وقاتل، لمحرض للقتل، لسيئ يدافع عن شخصيته أمام أولاده، ثم أب طيب حتى وإن كان بلا صوت. ثم يعود وحشًا بلا مشاعر، لينتهي غريبًا منبوذًا؟ هل هناك صورة سيئة أو ممزقة للأب أكثر من أن يكون غريبًا في بيته؟
اقرأ/ي أيضًا: