جئنا إلى بيروت من رحم المدينة نفسها. كان عباس بيضون يومها وافدًا منتظرًا إلى عاصمة البلاد. وكنت أتهجى خطوي في عالم كنت غريبًا كليًا عنه. عالم لم أكن أملك من عدة للخوض فيه سوى قراءات متفرقة ومن دون تخطيط. كنت أقرأ ما تيسر، وكان يلزمني مرشد ودليل في القراءة والكتابة على حد سواء.
عباس بيضون كان ناقدًا قاسيًا. لكن نقده لشعراء آخرين من مجايليه وسابقيه، لم يكن مصوبًا نحو أعمالهم، كان مصوبًا دائمًا نحو ذائقته التي تتغير باستمرار
عباس بيضون، كان يومها هذا المرشد. لكنني وحين أكتب ما أكتبه اليوم، لا أريد تذكيره بإرشادي، بقدر ما أريد تذكره. في تلك السنوات، كان يكفيني أن يمدح عباس نصًّا كتبته، لأستطيع مواجهة العالم كله به. لم أكن أريد داعمًا سواه، وكنت أستطيع بهذا الدعم أن أخوض في معارك وسجالات، لم أكن مهيأ لها أصلًا، لكنني على وجه من الوجوه كنت واثقًا من نجاتي ولو خلفت بعض الجروح.
وحين يكتب المرء سيرة لشخص وعر كالذي كنته، يخال أن هذا الشخص سرعان ما سينقلب على معلميه. ذلك أن غريزة القتال والعراك لا تتوقف عند حدود. هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية، لم تتح لنا الحياة الثقافية في بيروت التسعينيات، أن نكون أكثر من حساد لبعضنا البعض، نتقاتل على المقعد المتوافر في حافلتها، رغم أن الجالسين في المقاعد منذ زمن، لا يحسبون أنفسهم قد نالوا ما يستحقون من تقدير واعتراف. لكنني ورغم كل الوعورة التي جبلت عليها وأصريت على اكتسابها، لم أجد سببًا وجيهًا للانقلاب على المعلم الأول. كان عباس يدهشني كل مرة حين يكتب وحين يتكلم، وحين يبدي رأيًا. وكنت أراه في مرات كثيرة ظالمًا لتجارب كانت تبشر بالكثير، لكن هذا الظلم كان يستند دائمًا إلى أسباب وجيهة ثقافيًا. على أي حال. لا أستطيع القول اليوم إن عباس كان بطريركًا ثقافيًا في تلك الفترة مع أنه كان يستطيع أن يتسنم سدة الكرسي بسهولة. كان رجلًا هاربًا من كل شيء، من نفسه ومن جسمه، من تاريخه ومعارفه. شاعر تفعيلة سابق، وشاعر نثر لا يستسيغ بعض ماضيه، وهارب أبدي من تاريخه واسمه وثقافته نحو مجهول بديع. كان شاعر اليوم واللحظة والتو. كل ما سبق وصنعه يبدو له ميتًا على نحو ما. ودائمًا يركض لاهثا نحو التقاط لحظة الحاضر، وكل مرة يحسب أنه التقطها في تجارب آخرين عربًا وأجانب، ويقرر الخوض على منوالها أو في أثرها.
عباس بيضون أيضًا كان ناقدًا قاسيًا. لكن نقده لشعراء آخرين من مجايليه وسابقيه، لم يكن مصوبًا نحو أعمالهم، كان مصوبًا دائمًا نحو ذائقته التي تتغير باستمرار، كما لو أنه لا يستقر في ميناء. يكتب في نقد الشعر والرواية والسياسة لكنه يرنو إلى التشكيل بعين خاشعة. وفي مسلكه هذا كان يبدو لي، أو هكذا أظن اليوم، أنه لا يثق باللغة، ذلك أنها مهذارة وسهلة الانزلاق نحو الثرثرة الفارغة، على عكس اللوحة التي كل لون فيها هو إنجاز ولد من العدم. ثمة لوحات كثيرة ورسوم أكثر لا يمكن الاعتداد بها على هذا الوجه، وهو كان يعرف وما زال يعرف ذلك جيدا، لكنه كان يحسب العالم لونًا، والأصح ألوانًا، وعلى اللغة أن تشرح هذا اللون أو تقاربه من زاوية ما. وأحسب أنه نظريًا محق جدًا. فاللغة هي بيت المديح والإطناب والطرب. باللغة نمدح الصورة والمشهد وباللغة نتبنى سحرهما، وباللغة نثرثر حولهما معجبين. لكن الصورة والمشهد لا يحتملان مثل هذا اللغو. ما أن تولد الصورة حتى تتحول خطابًا عضويًا. حتى لو كان هذا الخطاب عنصريًا أو متعاليًا أو تافهًا، إلا أنه لا يكف عن تشكله كخطاب.
لطالما كان عباس بيضون يكره الثرثرة. والثرثرة على الأرجح شأن لغوي ممتاز. لكنه لم يكن مقلًا في الكلام. كان مفرطًا إلى حد ما، لكن إفراطه مشغول بدقة الصاغة. يحكي كما لو أنه يؤلف، ويؤلف كما لو أنه يمحو. وليس ثمة ما يبقي عليه قيد الورق والحبر، سوى همهمات قليلة نجت من ممحاته، أو ربما لم تلحظها عينه المدققة. إفراطه في الكلام لم يكن أيضًا تبنيًا حاسمًا لما يقوله. يجادل ويقاتل دفاعًا عن فكرته، ويبدو لك أصمًا يرفض أن يتنحى عن ناصية الحديث. لكنك تكتشف بعد حين، أنه كان يستمع، بل كان يستمع بانتباه، وأن فكرتك التي بدت جنينية لحظتها وغير قادرة على الإنجاب والتكاثر، تحولت في خطابه اللاحق إلى فكرة منجبة وحية، تاركًا لك ما تخلى عنه طائعًا، لتتبناه راضيًا ومتحمسًا.
لطالما كان عباس بيضون يكره الثرثرة. والثرثرة على الأرجح شأن لغوي ممتاز. لكنه لم يكن مقلًا في الكلام. كان مفرطًا إلى حد ما، لكن إفراطه مشغول بدقة الصاغة. يحكي كما لو أنه يؤلف، ويؤلف كما لو أنه يمحو
مرات كثيرة ورطتني مناقشاتي مع عباس بكتابة مقالات لم أكن مقتنعًا بصوابها تمامًا. ذلك أنه قادر على ممارسه سحره عليك ما يدفعك لتتخلى طوعًا عما كنت مقتنعًا بصوابه. إنه بهذا المعنى صانع كمائن لكنه في الأعم من أحواله، قادر على دفعك دفعًا نحو إنتاج الأفكار.
في سنوات منفاي، وكل سفر هو منفى، كنت أتابع أخبار أصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي. ودائمًا كنت ألاحظ أن هؤلاء الأصدقاء ينشرون صورهم مع عباس عند زيارتهم لبيروت. وكنت أحرص على تأمل وجهه وجسمه. لم يتغير كثيرًا عما كنت أعرفه. لقد ضاقت عيناه قليلًا، ربما بسبب هجرات الأصدقاء التي تنزف من روحه، لكنه ما زال كما هو. وأنا الذي يقيم على الضفة الأخرى من الكوكب، كنت أخشى كثيرًا رؤيته متغيرًا. عباس بيضون الذي جهز لي مكانًا في بيروت ذات يوم، يبدو بالنسبة لي ما بقي منها. وقد جاءت أخبار الأصدقاء لتؤكد لي هذا الظن. كانوا يلتقطون صورًا معه، لأن لا دليل حقيقيًا على زيارتهم لبيروت إن لم يلتقوا بعباس فيها. إنه أثرها الباقي، هرمها الذي يصنع قامتها، ومن دونه لا تبقى المدينة مدينة. وحيث إنه ما زال مقيما فيها، يمكنني الإيمان بأنها ما زالت مدينة تستحق أن تروى وتعاش.