في عام 1961، ستجد حنة آرنت نفسها أمام محك تاريخي صعب، وسط قاعة المحكمة التي تجري فيها أطوار مقاضاة أدولف أيخمان أحد رموز النازية البارزين. أخذت آرنت، وهي التي عايشت جحيم الهولوكست وكانت أحد ضحاياه؛ في مساءلة هذا "الشر" الواقف أمامها مصفدًا. للمصادفة الساخرة ربما، تمت محاكمة أيخمان في الكنيست الصهيوني في القدس، أي في الدولة حديثة النشأة على أنقاض المجتمع الفلسطيني وتطهير أرضه عرقيًا منه!. لتلتهي أرندت بشخص أيخمان أكثر من فعله!.
أي حكم على الشر السياسي للنازية لا يكون إلا تقريرًا قضائيًا أخلاقيًا ينفي إمكانية فهمه إجمالًا، ما يستوجب نقد الذات الفكرية التي أوجدت هذا الشر
فمن ناحية تقر آرنت بأن الشر المرتكب من طرف أيخمان ليس جذريًا، لأنّه ليست له جذور في داخله ولا يتضمن أيّ إرادة لفعل الشر من أجل الرغبة في الشر، ومن ناحية أخرى أن هذا الأخير لم يكن بليدًا أو منزوع الإرادة، فقد كان يملك القدرة على التمييز بين العدل والظلم، وبين الخير والشر، وبالتالي كانت له كل الوسائل كي لا يصدر منه ذلك الجرم. وهنا تكمن "تفاهة الشر" عند آرنت، وتُفَسَّرُ في كون الشر فعل إنساني تلقائي الحدوث، له بناء أيديولوجي مسبق، غير أن ممارسته لا تعدو كونها ممارسة للشر في ذاته.
اقرأ/ي أيضًا: يورغن هابرماس: الأصولية الدينية ظاهرة حديثة وليدة للرأسمالية والاستعمار
فأي حكم على الشر السياسي الذي أنتجه الرايخ الثالث من حيث هو شر، لا يكون إلا تقريرًا قضائيًا أخلاقيًا ينفي إمكانية فهمه في مجمله. لكن في المقابل هناك ضرورة لنقد الذات الفكرية التي أوجدت إمكانية هذا الشر، ووضع الإصبع على مكامن الشرخ الثقافي الذي ولَّده.
من هذه النقطة تحديدًا، ننطلق في البحث حول المفاهيم المؤسسة للنازية، بالنبش في تربة تاريخها الفكري عن جذور أصالتها الأيديولوجية بصفاتها الثلاث: المركزية العرقية، والشمولية السياسية وعقيدة الحرب.
مفهوم العرق.. العنصرية توظف العلم
يضمر سؤال: "من أين أتت فكرة التمييز العرقي؟" استفهامًا قد يكون أكثر جذرية، يتمثل في: "متى برز مفهوم العرق؟".
يدفع البحث عن الإجابة على هذا السؤال إلى الرجوع منهجيًا للانتقالات الكبرى للفكر البشري كما حددها أوغست كونت: اللاهوت والميتافيزيقا والعلم. وبالعودة للبدء، سنجد كيف أن الديانات أسست عدة تفسيرات للفروق الظاهرية بين البشر. هذه التفسيرات ظلت رهينة لاتساق مفروض مع نظرية الخلق التي اعتمدتها الديانات التوحيدية.
"فقد نجد بالضبط في قصة نوح وأبنائه الثلاثة بداية تعليل الاختلاف بين السود أبناء حام، والبيض أبناء يافث، والعرب واليهود أبناء سام. لكن دائمًا وجود الوحدة الأبوية، يجعلنا أمام تصور عرقي ضعيف جدًا وغير مكتمل"، يقول المؤرخ الفرنسي هيرفي لو براس، في حواره المعنون بـ"فكرة العرق".
بيد أن تجسد مفهوم العرق بشكله الكامل بدأ بعد عهد النصوص الدينية بكثير، تحديدًا في منتصف القرن الـ18. ولا يعني هذا أن المرحلة اللاهوتية سلمت من التمييز بين الشعوب، بل كان التمييز قائمًا على المعيار الحضاري، أي من كان خارج إمرة الإغريق أو سلطة روما، فهو "بربري"، وهنا ينتهي الأمر.
وبالرجوع إلى منتصف القرن الـ18، وبعد استكمال اكتشاف العالم واكتمال الهيمنة الوضعية، ستولد تيارات جديدة في العلوم الطبيعية، تقوم على ترتيب الطبيعة بشكل هرمي تطوري، وستخرج إنتاجات كانت ذات وقع كبير في تلك المرحلة.
من تلك الإنتاجات كتاب كارل فون ليني "نظام الطبيعة" الذي أسس فيه لتراتبية عمودية للأنواع الطبيعية، وموسوعة "التاريخ الطبيعي" لكاتبها جورج لويس دو بوفون الذي طرح فيها لأول مرة الأصول المادية للفوارق الظاهرية بين الكائنات الحية، وكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع" باعتباره التأسيس الأول الأكثر تماسكًا لنظرية التطور.
في نفس تلك الحقبة ستتخذ العلوم الطبيعية منحًا آخر عندما ستتسائل، انطلاقًا مما استجد فيها من نظريات، عن أصل هذا الكائن غير العادي، أي الإنسان، وستلتقي بالعلوم الإنسانية في ميلاد علم الأنثروبولوجيا الذي أخذ كموضوع له دراسة الوضع البشري في ارتباطه بالطبيعة، واهتم بالبحث عن مكامن تشابه واختلاف البشر فيما بينهم، انطلاقًا من مقارنتهم ببعضهم. هنا سيبرز نجم آرثر غوبينو في فرنسا، بترتيبه الشهير للأعراق على أساس ثلاث محددات:
- العرق الأسود ينقصه الذكاء.
- العرق الأصفر غير قادر على إنتاج نظرة ميتافيزيقية.
- العرق الأبيض الكامل بذكائه وقدرته على تجريد الوجود وإنتاج الحكمة منه.
مستلهمًا من فكرة وحدة روح الأمة عند مواطنه هاردر، ليستنتج أن "كل حضارة قوية، طالما أنها محافظة على تجانسها العرقي".
"من هنا بدأت أصول الأيديولوجيا العنصرية في أوروبا كانقلاب وضعي على أفكار عصر الأنوار"، يقول المؤرخ الإسرائيلي الفرنسي زئيف سترنهيل في كتابه "مناهضو الأنوار"، مضيفًا أن العنصرية في حلتها العلمية كانت فكرة القرن الـ19 الأكثر شيوعًا في كل أقطار أوروبا، وتحولت إلى أيديولوجيا سياسية مع اعتماد مفاهيم الانتقاء الطبيعي والصراع من أجل البقاء، في تحليل الواقع السياسي للأمم الأوروبية.
هذه الأفكار التي ستجد تعبيرًا لها أكثر في النزعة المعادية للسامية عند ريتشارد فاغنر، الذي لم يحاول إخفاء احتقاره للعنصر اليهودي في كتاباته التي كان ينتقد فيها الرواسب اليهودية في الموسيقى الأوروبية، ولا حتى في أوبراه التي جسدت إبداعيًا موقفه ذلك، الذي عبر عنه تلميذه تشامبرلين: "مصير الحضارة الألمانية يعتمد على مصير الحرب بين العنصر السامي والعنصر الآري العظيم".
يقر ستيرن هيل في متنه، ويورد تأكيدًا لدور فاغنر في التأسيس لفكرة معاداة السامية متمثلًا في شهادة لهتلر مفادها: "من أراد فهم روح النازية يجب أن يعرف فاغنر".
يمكن القول إنه هكذا تجسدت ميتافيزيقا الفوارق العرقية في الأيديولوجيا الأوروبية. ولم تكن النازية الألمانية ورديفتها الفاشية الإيطالية إلا نموذجًا لفكرة أكثر شمولية تنظر إلى العالم بعين استعلاء العنصر الأوروبي.
وتجدر الإشارة إلى أن أكثر الكتابات التي جسدت الرهاب الأوروبي من السامية، برزت في بعض مراحل تاريخها الحرجة كوسيلة دفاع عن امتلاك السلطة، كما هو شأن النص الأسطوري "بروتوكولات حكماء صهيون"، الذي نشر في فترة صعود الأصوات الاشتراكية وسط روسيا، وبإيعاز من القيصر نيكولا، والذي اعتُمد بعدها كنص تبريري لمواقف النازية، وتفسيري لفشل المواجهة العربية للاحتلال الإسرائيلي.
النازية نتيجةً للثورة الفرنسية!
ينطلق المؤرخ الفرنسي فابريس بوتييون، راسمًا تصوره لتاريخ الأفكار السياسية التي شكلت الأيديولوجية النازية، في كتابه "الثورة والنازية: ثيولوجيا الإشتراكية الوطنية"، من حقبة تاريخية تبعد عن هذه الأخيرة مسافة قرنين.
وعليه فهو يرى أن ولادة الاشتراكية الوطنية الألمانية نتيجة لسيرورة تاريخية أوروبية، ابتدأت مع الثورة الفرنسية عام 1789، مُقرًا بأن هذه الثورة كانت حدثًا لم يقتصر على القطر الفرنسي وحده، بل عرف امتداده لكل البلدان الأوروبية، طابعًا لمرحلة انتقال دامٍ عرفته القارة العجوز، وبارزًا كنتيجة زخم فكري أنضج واقعها آنذاك.
ويقيم بوتييون طرحه على القناعة بأن تاريخ أوروبا السياسي هو نفسه تاريخها الفلسفي. ويحيل ذلك إلى الطرح القائل بأن معضلة الشرعية السياسية مثلت هاجسًا سياسيًا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية.
وفي تلك اللحظة تحديدًا سيُطرح حل المشكلة من جانب شخصية دينية هي القديس أوغستين الذي سيعوض الإمبراطور الروماني كمصدر وحيد لشرعية السلطة الأوروبية بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فاتحًا الباب لتاريخ من الحكم الديني السلطوي سينتهي مع نهاية القرن الـ18.
ولن تنتهي بذلك ضرورة النسق الإيماني المجرد لتوحيد الشعوب، لدرجة تعلل موقف المفكر الإنجليزي ريموند آرون بأن "التوتاليتارية ديانة علمانية"، ونزوع بوتييون في التأريخ لتلك الفترة على أساس ثيولوجي كما هو بارز من عنوان مؤلَّفه.
ويُمكن اعتبار حل الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة عام 1806، حدثًا معادلًا لثورة 1789، من حيث تطابق الإرهاصات السياسية نفسها التي ظهرت قبيل انتهاء الزخم الثوري الفرنسي، أي البحث عن عقد اجتماعي جديد يحل محل القديم في وظيفة تأسيس الجمهورية.
يكتب بوتييون: "إذا كان البحث عن التوافق السياسي في فرنسا بين طرفين هما: اليسار (الثورة) واليمين (الثورة المضادة)، فإن الحالة في ألمانيا كانت أكثر تعددية".
ويحيل هذا إلى أن الوحدة الألمانية تستلزم شرطية وجود سلطة مركزية ضعيفة، تحقق الإجماع حولها، مثل اتحاد الراين (1806- 1813)، أو وجود سلطة مركزية قوية لكن لا تحقق التوافق العام، كما في حالة المشروع البسماركي الذي أضاع الأراضي النمساوية من وحدة ألمانيا إلى الأبد.
واستنادًا إلى أن تشكيل سلطة مركزية، يقوم أساسًا على قدرتها على جمع المتناقضات السياسية تحت ظل التنظيم الواحد المؤطر لممارسة السياسة، أو باختصار "الدولة"، فإن عملية تجميعه تستند إلى طريقتين: خلق نظام مركزي، وبتر الأطراف الراديكالية سواء كانت يمينية أو يسارية، أو خلق نظام مركزي بتركيب الأيديولوجيات الراديكالية.
"بالنسبة لبسمارك فكان من أتباع الطريقة الأولى"، يقول فابريس بوتييون. أي أن بسمارك أقصى المعارضة الراديكالية من المشاركة السياسة. وهذه القوى المعارضة تمثلت في الاشتراكيين من اليسار، والقوى الكاثوليكية من اليمن
ويضيف بوتييون أن اللحظة المفصلية في تاريخ الأيديولوجيات اليمينية في ما بعد الثورات الأوروبية، هي تلك التي تحولت فيها نوستالجيا النظام السابق إلى "شاعرية وطنية"، لن تبقى مقتصرة على الجانب المحافظ، بل ستنتقل إلى اليسار مع بداية الحرب الكبرى.
وبالوصول إلى الحرب العالمية الأولى، سيتحقق التوافق السياسي في أوروبا على مفهوم الوطنية، خلال الاقتتال، وتجتمع كل من الاشتراكيات الثورية والتيارات المحافظة لنصرة جيوشها.
وبالنسبة لفرنسا التي ربحت الحرب، أعطى ذلك الانتصار شرعيةً لبقاء ذلك التوافق، في حين انكسر عند ألمانيا الخاسرة، ما سيضعها في حالة اقتتال ثانٍ حول السلطة في الحرب الأهلية خلال الفترة ما بين عامي 1918 و1919، ما سيمهد بدوره الطريق لشكل جديد من التوافق الذي أنتجته الاشتراكية الوطنية.
ويَعتبر فابريس بوتييون أن الرايخ الثالث الذي شكلته النازية، إنما هو تجربة لإنتاج سلطة مركزية ألمانية تحظى بالإجماع السياسي، يقوم على تركيب من أيديولوجيتين راديكاليتين، فهو في نفس الوقت يميني وطني، وكذلك اشتراكي شعبي على المستوى الممارسة السياسية التي كانت تختلف كثيرًا على التقليد اليميني الألماني القائم على الموروث الإرستقراطي القديم.
هنا تكتمل عند المؤرخ الفرنسي صورة الأيديولوجيا النازية تجسيدًا لمسار النظرية السياسية الأوروبية في بحثها الدائم عن عقد اجتماعي يوحد الشعوب تحت إمرة هياكلها التنظيمية، وتحصيل شرعية الإجماع حول سياساتها.
عقيدة الحرب.. العنف كقيمة أخلاقية
دفع صعود النازية وذياع أخبار جرائمها في أوروبا النصف الأول من القرن الـ20؛ العالم للتساؤل: ما الذي حول البشرية إلى مجمع من الوحوش؟. وهو نفس السؤال الذي تسرب إلى وعي المؤرخ الأمريكي جورج موسي بعديد من الطرق، أهمها تجربته الشخصية لتلك الدموية التي كان ضحية لها في بلده الأصلي ألمانيا، ليدفعه فضول الضحية إلى دراسة جلاده دراسة علمية تاريخية.
وبحسب جورج موسي، فإن عقيدة القتل والتطبيع مع الدموية، التي اجتاحت شعوب القارة العجوز، لها أصل سياسي يتمثل في الحرب العالمية الأولى. ومرد ذلك كامنٌ في تجربة الموت التي عاشها الإنسان الأوروبي، بشكل أصلت عنده ثقافة قائمة بذاتها للحرب.
ويبحث موسي من خلال كتابه "fallen soldiers" عن أصول الأسطورة المؤسسة لمفهوم المقاتل المتطوع، في تيمة التضحية وطقوس الموت التي تكرِّم هذا الشاب الذي وهب عمره فداءً للوطن.
ووجد موسي أن شيوع هذا الخطاب الأخلاقي، والسلطوي السياسي في نفس الوقت، سار في خط تصاعدي طيلة القرن الـ19، وعرف ذروته في اللحظة التاريخية التي وافقت اندلاع الحرب الكبرى سنة 1918.
وذكر موسي أن الموت في الوعي الجمعي لتلك المرحلة، حوَّل المجند البسيط إلى بطل ميثولوجي، وقيمة أخلاقية سامية تنبني عليها كل ثقافة ذلك العصر، وتؤسس لعقيدة مطلقة للحرب.
وهي عقيدة عبرت أكثر عن نفسها خلال الحرب العالمية الثانية، وشكلت السبيل الوحيد لإرجاع كل شر مهما بلغت فظاعته إلى خير مادام في سبيل الوطن. وبهذا الشكل غدت الإبادة التي مارستها كتيبة "SS" ضد اليهود في بولونيا، مبررة، بل ذات طبيعة خيّرة!
"عقيدة الحرب تتفه الصراع في حد ذاته"، يكتب جورج موسي، مستنتجًا أن هذه العقيدة تجعل من العنف حدثًا عادي الحدوث في الواقع، بل تغدو هي محركه على حساب النزاعات الاجتماعية الأخرى الأكثر تجذرًا وفاعلية.
عقيدة الحرب تتفه الصراع في حد ذاته، وتجعل من العنف حدثًا عاديًا، بل إنها تصبح محركه على النزعات الاجتماعية الأكثر تجذرًا
من هنا يتبين، بحسب نظرية جورج موسي، أن أوروبا لم تتخلى عن موروثها الثقافي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ما أعاد ذلك الموروث إلى الظهور مع الأيديولوجية النازية، وهو ما يدفع للتساؤل: هل انتهت النازية فعلًا عام 1945؟ إذ هل يمكن اعتبار صعود اليمين الشعبوي المتطرف مجددًا في أوروبا، ليس سوى ما أخبرنا به جورج موسي من موروث ثقافي ينصب العنف أسمى قيمه؟
اقرأ/ي أيضًا:
"النازية الجديدة" الأمريكية.. إعجاب بداعش وعداء للنساء وولع بالعنف