"المأساة التي لم يسبق لها أن قاربتني، لم تلامسني قط، انقضّت عليّ. هذه المرأة تراها. إنني في الداخل. في داخل المأساة. مثل كل أولئك الذين ليس لديهم أم. إذن أنا ليس لديّ أم. هذا جليّ.. ليس لديّ أم".
الأفكار والكلمات هي من تصنع حياة ناتالي ساروت الطفلة ، كما تقول سيرتها
هكذا يلخّص هذا المقطع الروائي القصير من سيرة الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت حياتها بالكامل. هناك شرخ غير ظاهر للعيان لكنه قابع وبإصرار جنب الطفلة الصغيرة نتاشا ذات الأصول الروسية. والتي تنقلت في حياتها بين بلدين روسيا وفرنسا، فيما تنقلت مشاعرها بين أم "باردة" وزوجة أب لا مبالية، ووالد عطوف لكنه صامت أكثر مما يجب.
اقرأ/ي أيضًا: نجاة عبد الصمد: الجنوب.. سيرة العطش
"طفولة" (ترجمة زياد خاشوق، دار المدى 2019) هو عنوان سيرة حياتية مدوّنة عبر أوراق متفرقة، كل حكاية أو حادثة واقعية من حياة الطفلة تأخذ لها بعض الصفحات في الكتاب. لا تسلسل زمني بين الحكايا ولا تماسك بين الأحداث المروية، إلى درجة أنه يمكنك أن تقرأ الكتاب من أي صفحة شئت. هناك فقط تلك الحميميات البسيطة والواقعية لطفلة في الخامسة من العمر، ثم الثامنة، وبعدها الحاديو عشرة، والثانية عشرة، ودخولها المدرسة الثانوية بعد وداع المرحلة الابتدائية التي تأخرت في دخولها، نظرًا لحالة الافتراق بين الوالدين وبقاء الأم في روسيا وإرسال الطفلة إلى الوالد في فرنسا.
قوة الكلمات
تكشف لنا الكاتبة في الصفحات الأولى من سيرة طفولتها كيف يعمل التلقين الصارم على خلق حيز كبير من التحدي في كسر القواعد أو تخطي الممنوع، كيف تواجه طفلة الخمس سنوات معلمة اللغة الألمانية التي تنهاها بحدة عن تمزيق ظهر الأريكة المغطاة بحرير ناعم. ترى الكاتبة الطفلة في ذلك موجة كثيفة وثقيلة من الكلمات التي تعتمل وتضغط في دواخلها الهشة. فجأة ودون سابق إنذار، تغرز الطفلة "بكلّ قواها نصل المقص وتشق الحرير وتمزّقه".
موجة كلمات وأفكار جديدة تغزو الطفلة من جديد في الصفحات اللاحقة. عن جملة أمها أو اللازمة التي طالما كانت تكرّرها عليها: "يجب أن تمضغي الطعام ليصبح بسيولة الحساء". عنوان هذا الجزء من الممكن أن يكون: "كسيولة الحساء". لا شيء متكرر أكثر من ذلك. طبعًا مع سرد مميز للكاتبة عن صعوبة تطبيق هذه الوصية التي جعلتها بطيئة جدًا في الأكل. وهو الأمر الذي جعلها تتحمل اللوم والسخرية والنبذ ممن يطعمها، على أن تتنكر لوعدها لأمها بأن تمضغ الأكل جيدًا حتى يصير بنفس سيولة الحساء.
إذًا الأفكار والكلمات هي من تصنع حياة هذه الطفلة الكاتبة في هذه السيرة. هناك اشتغال كبير وهام على أثر الكلمات في قراراتها وطباعها وتصرفاتها. وهو ما عبّرت عنه الكاتبة أيضًا في كتابها "انتحاءات" في عام 1939 كمجموعة قصصية، الذي تشرح فيه، وفق مفهوم بيولوجي مرتبط بالنباتات (الانتحاء)، عن التحول وعن حركات لا يمكن تعريفها تنسل بسرعة إلى حدود وعينا لكنها مسئولة عن أفعالنا وكلماتنا وأحاسيسنا. وهو الكتاب الذي صنفها كرائدة في تيار الرواية الفرنسية الجديدة.
صوت الراوي
في هذا الكتاب راويان اثنان توليا مهمة نقل هذه السيرة، الكاتبة وضميرها.. نقل السيرة كان في إطار حوار بين شخصين لاسترجاع الأحداث الماضية، مستعينة ككاتبة بنفسها لتترك مسافة للتمحيص، للتذكّر أيضًا وللتأكّد من الحوادث المرويّة. "حاولت أن أحيي الأشياء التي أتذكرها في أجمل طريقة. لكن مع رقابة ذاتية قاسية كيلا أشطح بعيدًا عن الواقع". حسب ما صرّحت به.
لا تعتمد الروائية ساروت الشرح أو التفصيل كثيرًا في كتاباتها، تكتب الحادثة، وتترك للقارئ مهمة تأويل، ما بعد الحدث، عليه. هنا تنقل الكاتبة رسالة أمّها كردّ لها حين سألتها عن إمكانية قول كلمة "ماما" لفيرا زوجة أبيها: "لا بد أن يكون الإنسان دون قلب، عديم الإحساس ناكرًا للجميل أن ينسى أقدس الروابط، أعزّ ما يمكن أن يكون لدى المرء في العالم، والدته. الاسم الذي لا يجوز لأية امرأة أخرى أن تحمله..". تقول ناتالي ساروت عن نوع كتابتها هذا: "عندما يكتشف القارئ لوحده نهاية الجملة، فلا يعود لازمًا أن أنهيها".
بالنسبة لناتالي ساروت، عمل التلقين الصارم على خلق حيز كبير من التحدي في كسر القواعد وتخطي الممنوعات
"صدمات" نفسية كثيرة نتعثر بها في الكتاب، مثل اكتشاف الطفلة نتاشا أنّ وجه دميّة الحلاّق أجمل من وجه أمّها في تفاصيله، وكيف أنّ ردّة فعل الأم المستنكرة والمبالغ فيها تكرّس وقع هذه الفكرة عليها: "إنّ ولدًا يحب والدته يجد أن ليس هناك أحد أجمل منها". شيء ما في دواخل هذه الطفلة يجعل فكرة الرفض عندها تكبر بآثار جانبية أخرى. وهو ما لم يفطن له أحد من أقربائها، كزوجة أبيها أو حتى والدها نفسه. أفكار غريبة تراودها، لكنها لا تجد سوى التعنيف والاستنكار الكبير مما تقوله هذه الطفلة ذات الخمس سنوات: "تعرفين يا والدتي، لديّ أفكاري.. أعتقد أنّ لك جلد قرد". تخيلات راقصة تتحول إلى هواجس قائمة في نفسية الطفلة، وتصنع تصرفاتها لاحقًا. في ظل غياب كبير لهامش الحب والاهتمام. هناك فقط صور متفرقة كتبتها الروائية عن حالات تخلي من طرف أمها عنها، وكيف أنّ الأم كانت تفرح عندما تجد سبيلًا في الابتعاد عن ابنتها. هنا كانت تلك الأفكار تكبر وتتسع لتصنع شرخًا حاولت الكاتبة أن تحدّ من صداه لدى القارئ بضمير آخر متحدث معها وعنها، لكنه هنا أيضا ليبسط الأمر ويجد له تبريرات قد تقي المرء من انهيار قريب، كأن تحاول التحايل عليه، مثلما كتبت عن تمرين الإنشاء بقسم اللغة الفرنسية حين طلبوا من الأطفال أن يرووا أول أحزانهم، فتجاهلت نتاشا كل أحزانها الأخرى وركزت على حادثة تبدو حيادية أمام باقي أحزانها القريبة منها، واختارت واقعة موت كلبها الصغير". محاولة تجاوز آلمها الحقيقية، فهي لا تسعى لأن تركن عليها كثيرًا.
اقرأ/ي أيضًا: علي الشوك.. سيرة ثقافية
يعتبر كتاب "طفولة" محاولة جديدة موفقة بعد تجربة ترجمة سابقة. كما يعد رحلة مشوقة في عوالم طفلة صغيرة بكل براءتها وشقاوتها، بعيدًا عن كل الأحكام والتصنيفات.. لأجل ذلك كله يقرأ هكذا دفعة واحدة.
اقرأ/ي أيضًا: