في الصورة يستلقي الشهيد على جانب الطريق الإسفلتي. يداه ممدودتان إلى الجانبين، وإحدى ساقيه فوق الأخرى. قاتلوه الذين أطلقوا رصاصة على رأسه جعلوه بهذه الوضعية. صلبوه هكذا على الإسفلت، مثل مسيح معاصر، أسفل درج حجري يصعد إلى السماء.
في أزقة القدس، وفي شوارع فلسطين كلها، يسير الشباب حاملين سكاكينهم. يسيرون في جلجلتهم، يخرجون إلى موتهم
نحتاج الكثير كي نعرف، كي نفهم ـ نحن الذين نختنق بعيدًا بما يصلنا من صور، ونحاول التنفس ببضع كلمات ـ ما الذي يدفع شبانًا لم يتجاوز أكبرهم أواسط العشرينيات، وبعضهم دون الخامسة عشرة ـ كما الشهيد في الصورة ـ إلى الخروج في نزهتهم الأخيرة؟ ما الذي يدفعهم لأخذ الصورة الأخيرة بـ"الشبوبية" الكاملة، مع الابتسامة المستهزئة بالحياة وكل ما فيها، وإلى كتابة كلمتي وداع أخيرتين، ثم رمي أعمارهم القليلة وكأنها لا تخصهم، والخروج نهائيًا من الحياة. وكي نبدأ بمحاولة الفهم هذه يجب أن نضع مفاهيم الكرامة وكِبَر النفس أمامنا وفي الاعتبار الأول.
في الصورة يقف جنديان صهيونيان بلباس القتل الزيتي على رصيف صغير، أمام محل قديم بباب خشبي كان أخضر اللون. تشي حجارة واجهة المحل وخشبات الشوح في بابه بأنه يحمل حكايات فلسطينية من عمر الدرج المجاور، قبل هؤلاء الطارئين. لكن الجنديين يبدوان دخيلين على المشهد، إذ يحتل منتصف الطريق مستوطنان مسلحان برشاشين في مواجهة السكين، يمشيان بتعجرف من يمتلك الطريق والأرض وأرواح من فوقها. يبدو هذان مرتكبا الجريمة الأصليان، وهذان الجنديان حُماتهما. أحد القاتليْن يوثق جريمته بصورة وابتسامة. الآخر انتهى من توثيقها، وأدار ظهره عائدًا إلى بيته كي يتباهى بفعلته أمام أولاده وجيرانه. دون أن ننسى أن هناك قاتلًا ثالثًا نرى المشهد من خلال صورته.
بين قدمي الجندي الأقرب إلى الشهيد نرى سكين مطبخ بمقبض أسود ونصل قصير. لم يجد الشهيد أكبر منها في محاولته الفتك بعدوه. ومجددًا، لا يتعلق الأمر بحب القتل، إنما بمحاولة فهم أسبابه، بوضع أنفسنا مكان تلك النفس المقتولة والمعذبة، والسؤال: ألم أكن لأفعل الأمر ذاته؟
ربما فكر الشهيد الصغير هكذا، قال: سأموت، بعد أشهر أو سنوات، سأموت
ربما فكر الشهيد الصغير هكذا، قال: سأموت. بعد أشهر أو سنوات سأموت. سيقتلني الصهاينة في غرفة نومي أو على أحد الحواجز وأنا أمشي. سيقتلوني بلا سبب، فليقتلوني إذًا بسبب. ثم لماذا علينا أن نُقيم في الخوف بينما هم ينعمون براحة البال؟ فلنقلقهم ما داموا يقتلوننا ويسرقون أرضنا، فلنرعبهم كي نستعيد حقنا. فلنجعلهم يتحسسون سلامتهم في كل خطوة من خروجهم الاضطراري، وهم يتلفتون بذعر عند كل زاوية ومنعطف، ويكلمون أنفسهم.
والشهيد الذي فكر بهذا كله وأكثر، تناسى أمه التي ستقلق عليه لغيابه غير المأذون، فهو خرج انتقامًا لأمهاته الأخريات، ولأمهات المستقبل الذين قتلوا. والشهيد تناسى أيضا أن إخوته سيجوعون هذا الغداء لأن أمهم لم تجد السكين الوحيد في المطبخ لتعد الطعام، وأنه لن يبقى لهم في الغد لا مطبخ ولا بيت.
الطلقة التي فجرت الرأس الصغير، رسمت طريقًا واضحة، طريقًا حمراء يلزمها المزيد من الدماء مع التقدم فيها، وهي طريق يعرف الفلسطينيون، بخبرة عقود، كيف يسيرون عليها، وإن بقيوا وحدهم.
اقرأ/ي أيضًا:
"جمعة" الغضب الفلسطيني على شاشات أمريكا
أشلاء الضحايا ليست معرضًا