في بادئ الأمر، أودُّ أن أصرّح أن السبب البعيد الذي أَعُدّه شريطَ افتتاح هذا المقال، يبدأ من خوفي... أعاني الرهاب منذ أكثر من ثلاثة أعوام؛ أنهيتُ عملي متوجّهًا إلى المنزل ليلًا، وكعادتي أراقبُ كل مَن هم حولي، السيارت، إطاراتها، المارّة، زجاج المتاجر، الأشباح المنعكسة عليها مما يَظهر على يساري في الجهة المقابلة من الطريق… شابٌ أسمر الوجه يجلس على اليمين، يتحدث عبر الهاتف المحمول.. حسنًا إنه بانتظاري، سأغادرُ حسبما يبدو وأنا في السادسة والعشرين من عمري… كنتُ مستعدًا، وحالما صيّرتني قدماي قبالتَه، سمعتهُ آنذاك يقول: "طيب وينك؟ أنا ناطرك يا بنت الناس".
إذا أراد أي شخص أن يتحدث عن الأنثى كقضية، فالأجدى به أن يتّبع طريق "فوكو"
"شيءٌ مثل سَواد الحِكمة ساورني (ذاك) الليل".. لقد نَجوت.. تخطيتُ الشاب لعدة أمتار، وبتُّ أصارع في نفسي الكثير من الأسئلة. "أنا ناطرك يا بنت الناس". من هي الأنثى؟ ماذا لو جلسَ الجميع على يمين الطريق ينتظرون؟ وكم للأنثى من قدرة على استيعاب (إمكانية) كَون هذا الشاب قاتلًا واحتوائِها؟ لقد كانت الأنثى بالنسبة لي في تلك الساعة أشبه بالمَوشُور وبدولاب الألوان في آنِ معًا. هل الأنثى قضية كالثورة؟! ألتفِتُ إلى ذاك الشاب بين الحين والآخر، وراودني في حينها -ربما كإجابة- قول "درويش": "وعليَّ وحدي أن أرى وحدي مصائِرنا، ووحدي أحملُ الدنيا على كتفيَّ ثورًا هائجًا، وحدي أفتّش شاردَ الخطواتِ عن أبديتي… فمن أنا وحدي؟ ولكنّي سأسندُ ظلّك العاري على شجر النخيل، فأين ظلك.. أين ظِلك بعدما انسكرت جذوعك؟ أنكيدو ترفّق بي وعُدْ من حيث مُت لعلنا نجدُ الجواب.. فمن أنا وحدي؟".
اقرأ/ي أيضًا: 9 نساء قويات من أزمنة أقل نسوية
في مقال بعنوان "مصادفاتٌ لا تَثِق بتدبيرها… مصادفاتٌ أخطأت في الحساب" يوجّه الشاعر والروائي السوري "سليم بركات" نقدًا لبيت الشعر، ويختار قول الشاعر المصري "حافظ إبراهيم" الشهير: "الأم مدرسةٌ إذا أعددتها، أعددتَ شعبًا طّيب الأعراقِ"، فيقول بركات: "(إذا) شَرْطية متعلقة بضمير تقديره (أنتَ) إذا أعددتَها. أيْ أن الأم تغدو (مَدْرسةً) للتربية، والتنشئة، إذا هيأها (الذَّكر) تدريبًا، وتلقينًا، وتعليمًا، وتثقيفًا، على التحديد والتخصيص".
بعيدًا عن ذلك لخطوات أقول: إذا أراد أي شخص أن يتحدث عن الأنثى كقضية، أو أي موضوع عظيم آخر، وكان على أقل تقدير مُدرك ومسؤول عما يقوله، فإن الأجدى به -ربما- أن يتّبع الطريق الذي سلكه "ميشيل فوكو" (الجنون وحبسُه، الشذوذ وإقصاؤه، الجنوح واعتقاله) على أن يتم ذلك كله في إطار التاريخ كما هو معلوم عن الرجل، إذ يعتبرُ "فوكو" الإنسانَ كائنًا نسقيًّا لا يمكن نزعهُ عن تاريخه وتطوره الطبيعي، ويشير إلى أن شريط الكروموسومات في البيولوجيا دائمًا ما يَحمل مجموعة الإشارات الوراثية التي تسمح للكائن المقبل بالتطوّر. ولسنا بطبيعة الحال معنيين بمقاربة هذا التشبيه مع قول فرانسيس بونغ" الذي يقول بالفرنسية في مجموعة قصائده المنشورة عام 1944: "L’homme est l’avenir de l’homme"، "الإنسان.. هو مستقبل الإنسان"، والتي استخدمت بشكل آخر في أغانٍ فرنسية، وكعنوان أيضًا لفيلم كوري: "la femme est l'avenir de l’homme"، "المرأة مستقبل الرجل".
تعالوا نَعُد عبرَ التاريخ قليلًا، وسأستذكر فيما يَرِد خطوطًا عريضة لمناقشة هكذا موضوع، كنت قد تابعتها في مناظرة ما، واعذروني على الإطالة.
في الفترة التي كان فيها الذكر يرى نفسه سيد هذا العالم، كانت الأنثى بالنسبة له كائنًا كماليًا
في الفترة التي كان فيها الذكر ينظر إلى نفسه على أنه سيد هذا العالم، وينظر إلى هذا الكون من شمس وقمر ونجوم، على أنها تدور كلها حول الأرض (مَركَزِه) -كما في الفيزياء الأرسطية، وما جاء به العهد القديم- كانت الأنثى بالنسبة له كائنًا كماليًا، كالقطة وخادمة المنزل لدى الأسر المترفة، بمعاملة تُوصف بأقل ما توصف بأنها دونية، حتى أنه ذُكر عن القديس "أوغسطين" نفسه (القرن الرابع للميلاد) قوله: "إذا كان ما احتاجهُ آدم هو العِشرة الطبية، فلقد كان من الأفضل كثيرًا أن يتم تدبير ذلك برجلين يعيشان كصديقين، بدلًا من رجل وامرأة"، ويتحدث "فوكو" خلال حوار نُشر في كتاب "Michel Foucault: Un parcours philosophique"، باستطراد عن مكانة الأنثى جنسيًا لدى الإغريق، ودمجِهِم حُب الغلمان بالصداقة تنحيةً للعلاقات الجنسية مع تلك الطبيعية، ويَذكر أن الأخلاق المرتبطة باللذة خلال تلك الحقبة، كانت مرتبطة بوجود مجتمع مبني على الذكورية، وفي أفضل الحالات كان (الزهد الجنسي) يُعد ترفًا، أو كورقة فلسفيّة، أراد الحكماء من خلالها إعطاء أسلوب حياتهم طابعًا جماليًا من خلال الانكفاء عن ممارسة الجنس. المجمَّع الكنسي هو الآخر عقدَ في القرن الخامس للميلاد مؤتمرًا في مدينة "ماكون" الفرنسية، لبحث فيما إذا كان للمرأة روح أم لا، وانتهى بالقول إنها خالية من الروح. وفي عام 586 للميلاد عُقد مؤتمر آخر لبحث إنسانية المرأة، ثم قرر المؤتمر بالأغلبية بأن المرأة إنسان خُلق لخدمة الرجل فقط.
اقرأ/ي أيضًا: 3000 ليلة.. نسوية الحركة الأسيرة
استمر ذلك مرورًا بعصر الإسلام -الذي كان تطورًا تاريخيًا بما لا شك فيه- حتى ظهرت نظرية "كوبرنيكوس" عام 1543 التي وضعها في كتابه "De revolutionibus orbium coelestium"، وقالت إن الأرض ليست مركزًا للكون، وإنما هي جُرم صغير يدور كغيره من الأجرام.
نظرية كوبرنيكوس قوبلت آنذاك ككل مستحدث بشديد الرفض والمقاومة من قبل علماء اللاهوت أولًا، إذ كانت تتعارض مع بعض فهمهم لما جاء به الكتاب المقدس، إلا أنها فرضت نفسها فيما بعد، وانتهى الفكر الإنساني لقبول هذه النظرية، بعد أن خلعت لديه شعوره بالمركزية، وحطّت من ثقته تجاه نفسه درجة، فلم يعد سيدًا للكون، وإنما هو محصور في كوكب الأرض فقط.. الأنثى آنذاك كانت غير معنية بكل هذا الكلام.
على أعقاب تلك النظرية، عادَ الإنسان مجددًا ليقول: حسنًا.. ليست الأرض مركزًا للكون، لكنني على ظهرها سيد هذه الكائنات؛ واستمرَّ على تلك الحال إلى أن أعلنها "تشارلز داروين" عام 1859 بالفم الملآن: لستَ سيدًا على هذه الكائنات، وإنما أنت نِتاج سلسلة عضوية. وذلك بعد "إخوان الصفا"، و"ابن خلدون"، و"جان باتيست لامارك".. الذين كانوا قد تطرقوا لما جاء به داروين قبل مئات السنين، ولن نتطرق نحن بدورنا للحديث عن ذلك.
قوبل "أصل الأنواع" بشديد الإنكار هو الآخر، إلى أن انتهى الإنسان بقبول النظرية بعد أن حطّت كذلك من نفسه درجة أُخرى، وعلِمت الأثنى بذلك من زوجها في لحظة حميمية ربما، لكنها لم تشعر بأية إهانة، إذ لم تكن معنية بهذا أيضًا.
انتهى الفكر الإنساني إلى قبول نظرية كوبرنيكوس، بعد أن خلعت شعوره بالمركزية
عاد الكائن البشري (الذكر) مجددًا ليبرّر: لستُ سيدًا على الكائنات، إنما أنا أرْقاها على هذي الأرض شعورًا، أجابه "فرويد": كل ما فيك من أحاسيس وانفعالات ومشاعر ما هيَ إلا غرائز ونزوات (ليبيدية) مركّبة من "أوديب، وإلكترا..."، وقد اعترف فرويد بأنه الخطوة الثالثة التي هزمت الكائن البشري (الذكر تحديدًا) أمام نفسه، وهكذا ماتَ الذكر مقابل ذاته كليًا؛ لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أنه كان قد احتضرَ قبل ذلك لدى "هيغل" الذي اعتبرَ العالَم قائمًا على أسس الصراعات والمصالح (بين الذكر والأنثى على أقل تقدير)، ثم ماتَ في "براغماتية وليم جيمس"، ومات بعد "موت الإله" لدى "نيتشه"، وبعد كتابهِ المُهدَى إلىَ "هتلر"… وهكذا هو يموت يومًا بعد يوم.
اقرأ/ي أيضًا: ما يجب أن يقال في يوم المرأة
استنادًا لما سبق نقول، إذا كان الإنسان هو مستقبل الإنسان منذ القِدم، وهو تَطوُّره الزمني الطبيعي والمُعايَن حسبما أسلفنا، وإذا كان هذا الإنسان قد صَنع لنفسه من الأنثى -حالَ إنجابها فقط- قضية تعويضًا عن كل خسائره وانكساراته أمام نفسه، وصارع في ميدان الذكور للذَّود عن العِرض وصونه، فأين الخلل الكَوني في ذلك؟
نقول: إن الفهم الموضوعي والتجريبي لـ"ذاتية" الذكر، وتكوينته المهزومة على مر التاريخ، وسوء الفهم -الحاصل بينه وبين الوجود- المفضي إلى الـ"لا جدوى" يحتّم عليه إدراك و"إعداد" أية ماهيّة كانت للأنثى في تصوّره؛ وإلا فهو ملقىً في هذا العالم دون أي اعتبارات ذات مغزى، وهو وحيد، قد اشتعلت في رأسهِ أُولى شرارات الانتحار؛ وها أنت أحيانًا تجد أنثى أو ذكرًا يشكو: "أبحث عن شريك يفهمني"، مع تحفّظنا التام على المُراد بـ"يفهَمُنِي"، أو يصف بالعامية: "حسّيت في كيميا بين وبين هالإنسان/ة"، أي تجانس.
ونشير هنا إلى أن العالَم الحديث مكّن الأنثى من معرفتها لذاتها، فأصبحت تدرك تمامًا أن الذكر يريد منها قضيته البيولوجية، وهذا ما دفعَ الأخير إلى إعادة ترتيب أوراقه في المجتمعات التي مرّها عصر النهضة قبل 500 عام، والنظر إلى ماهو أبعد من الإنجاب والاستمرارية التي باتت أيضًا عبثية بالنسبة له، إذا ما اقتصرت على ذاك الشكل فقط؛ ولذلك ترى الذكر يحرص في المجتمعات الرجعيّة على إبقاء الأنثى تحت جناحه وضمن دوائره، إذ يدرك تمامًا أن خطر فهمها، وفهمها لذاتها، وما يترتب عليه من إعادة النظر في الغايات والوسائل بصرفهِ النظر عن تجارب الشعوب الأخرى، سيدفع به إلى دوامة ليس لها من مستقر، ولهذا أيضًا تجد ابتكار الرجل لقضية تعدد الزوجات، محاولة ناجحة آتت أُكلها في إلهاء الأنثى عن كل ما في العالم.
أيها السادة، أرى أن تبيان وجهة نظرنا من موقف الشاعر السوري "سليم بركات" بعد كل ما سبق، بات واضحًا للغاية، على الرغم من كوننا لم نكتب هذا المقال لمناقشة وجهة نظره، نقول: "أعددتها" في العصر الحديث لا يمكن (إلا) أن تُفهم في سياق (أدركتها وهيَّأت عقلك لفهم مغزى وجودها)، وفي تلك الحقبة من تاريخ مصر لا يمكن إلا أن تعني الرعاية، الخطوة الأولى لما بعد مرحلة البؤس التي عاشته الأنثى في الشرق الأوسط وفي العالم لعقود، ولا يمكن نزعها عن مكانها وحقبتها الزمنية كما قلنا. وببساطة نوضح: إن الرغبة بانتقاد "أعددتها" لحافظ ابراهيم، والقفز بصعيد مصر إلى لائكية فرنسا دفعةً واحدة، ومحاولة استثناء الطريقة التجريبية التي يتطور من خلالها هذا العالم، تشابه إلى حد كبير رغبة الماركسيين السوريين بعودة الملايين إلى عباءة رأس النظام السوري "بشار الأسد" بحجّة أن بعض الذين يقاتلونه من ذوي المرجعية الإسلامية.
إن غياب إدراكنا للأنثى هو باب لقضايا أُخرى من شأنها استئصال الجنس البشري
ختامًا: الأنثى هي إكرام الإنسان لذات الإنسان، ولا بد من الأنثى في الوقت الذي بدأ الإنسان فيه عمومًا ينهار أمام ذاته وركائز فحوى وجوده. (حالَ أدرك طبعًا). لم يحدد "مارتن هايدرغر" للإنسان طريقه بأن يصبح الجميع علماء ذرة، وفيزيائيين، وأطباء، ومهندسين.. وإنما أن يُدركوا ذاتيّتهم وما يُريدون على أقل تقدير.
اقرأ/ي أيضًا: عندما تبكي فرح.. الثورة على الذات قبل النظام
عالَم بلا نساء أيها السادة، هو عالَم بلا غايات، وعلى إثرها هو عالَم بلا هُويّة أو ملامح، وهو عالَم يمارس العبث على أعلى نطاقاته ومن أوسع أبوابه، ومن ثم نستطيع القول إن غياب إدراكنا للأنثى هو باب لقضايا أُخرى من شأنها استئصال الجنس البشري، قد تكون دينية… والرهبانية ربما تكون محاولة لتبرير هذا الوجود بغير الأنثى، جَهْل "أوغسطين" لماهية الأنثى جعله قسيسًا؛ جُملة "نُقاتل دفاعًا عن أعراض المسلمين" مثال جيّد وله تاريخه، والعملية الانتحارية مشابهة إلى حد كبير، هذا إذا ما افترضنا أن الانتحاري (لم) يكن يضع في باله أصلًا قبول الله له بين إحدى حوريات الجنة.
وإن كنا قد قلنا قبيل قليل، أن عالَمًا بلا نساء، أو عالمًا يَفهَم نِصفنا الآخر المتمثل بالأنثى بشكل جُزئي هو عالَم بلا ملامح، فهو عالَم مليء بصراعات ليس لها أي معنى بلا شك، صراعات تهدف للسلطة فقط مثلًا، على عكس الصراعات التي يربط فيها الإنسان مصيره بمصير أطفال وزوجة وأخت، ما يجعل منها مُستساغة في غياب الغايات البشرية رفيعة المستوى (فالحيوانات تدافع عن صغارها أيضًا)، وهو عالَم يفتقر أيضًا لأدنى مهارات العمل السياسي والدبلوماسي؛ وكلما اتسع معنى الأنثى في مجتمع، كلما ازدادت قدرتهُ على اتخاذ أقصر الطرق للبقاء.
اقرأ/ي أيضًا: