ذلك الصّباح في مثل هذا اليوم 13 نيسان/أبريل، قبل 365 يومًا على وجه التّحديد. كنتُ قد عزمتُ أن أذهبَ لوحدي. لكنني لم أكُن وحيدًا في نزهتي الصّباحية في غابة فونتانبلو (Fontainebleau). وأنا مثل كثيرين أتشاءمُ من هذا الرّقم 13؛ وأتناساه ما استطعت.
رنّ الآيفون. صورةُ برنار على الشّاشة. ليس من عادته الاتصال صباحًا. فتحتُ الخطّ وإذا بصوت إيليان زوجته والصّوت يخرج من السبيكر: شوقي؛ مات برنار الآن.
لا تخبر أحدًا.
سادَ صمت مِن نوعٍ خاصّ لا أعرفه وما زلت. قلتُ شيئًا؟ لا أذكر. تغيّر المشهد أمامي وفي داخلي.
*
برنار نويل واحد من أهم كتّاب فرنسا. صوتٌ ربما هو الأكثر عمقًا وتأثيرًا في جيل من الكتّاب والشّعراء الفرنسيّين؛ حيثيته شملت الشّعر والمسرح ونقد الفنّ التّشكيلي والمقال.
بدا ذلك منذ مسرحيّته الشهيرة "قصر الوليمة" الّتي أحدثت ضجّة كبيرة يوم إخراجها على المسرح قبل أكثر من نصف قرن. أُقيمت آنذاك دعوة ضدّه بسبب موضوعها الفضائحي/ البورنو، ولكنّها صدرت في ثمان طبعات وبالأخص لدى دار غاليمار.
كان برنار يريد من إثارة ثيمة الجنس ليس الجنس بذاته، بل توجيه إصبع الإدانة إلى النخبة البورجوازية العارية، من وجهة نظره، عن كلّ القيم الإنسانيّة والأخلاقية. وقد وجد في تعريتها جسديًا أفضل صيغة لإدانتها فجعل سيّدة من المجتمع المخمليّ تضاجع حيوانًا.
ثارت ثائرة المجتمع المخمليّ ضدّه وأقيمت عليه دعوة في المحاكم وكذلك تصاعدت الاحتجاجات في الصّحافة والإعلام، ولكنّه كعادته استطاع أن يواجه كلّ تلك الاحتجاجات الّتي تذكّر بما تعرض له بودلير بعد نشره "أزهار الشرّ" للمرّة الأولى في القرن التاسع عشر.
ابتكر برنار خلال هذه المواجهة مصطلحًا جديدًا في اللّغة الفرنسيّة للتّعبير عن مقص الرّقيب وذلك بإجراء تعديل طفيف على مفردة الرّقابة بالفرنسيّة؛ حيث استبدل الحرف الأول من الكلمة ب الذي يظل بنفس اللفظ، ولكنه فصل الكلمة إلى مقطعين فأصبحت بذلك "المعنى المؤمّن". ليضيف مفردة جديدة تعني الرّقابة على المعنى. مراقبة الدّلالة داخل الكلمة. وكما كان يقول "التفتيش في أحشاء الكلمات".
ظلّ برنار يحمل راية المعارضة والدّفاع عن شرف الأدب والقيم العليا التي أطاح بها المال والسياسة في المجتمع الفرنسي الجديد.
لم يعمل برنار في أيّة مؤسسة حكومية أو حزبية، وكان يعيش من خلال إحياء أماس ولقاءات مع الجمهور داخل فرنسا وخارجها مدفوعة الآجر. وقد كانت بالإضافة إلى مبيعات كتبه مصدر رزقه الوحيد. وكم عانى من شظف العيش لكنه لم يتنازل لأية سلطة مهما بلغت حاجته حدةً وإغراءاتها قوة.
وهنا لا بد لي من الإشارة إلى موقف برنار نويل الصّريح والشّجاع من القضيّة الفلسطينيّة، حيث كان من النادرين بين الأدباء الكبار الذي لم يصمت وواجه الاحتلال بالكلمة وبالإدانة للغاصب الإسرائيلي على كل المنابر، وفي كلّ فرصة تسنح. صرح برنار في مقابلة صحفيّة ذات مرّة: "أنا لا أفهم كيف أن شعبًا عانى من سكين الجلاد يتحول هو بدوره إلى جلّاد ليذبح شعبًا آخر". ولا يخفى على أحد؛ أنّ هذا الموقف كلّفه الكثير الكثير وللكلام تفصيل.
*
فاجأتني إيليان في الزيارة التي قمتُ بها بعد رحيله إلى دارته أنها أطلعتني على آخر رواية كتبها ولم تصدر بعد؛ وهي الرّواية الّتي تدور أحداثها وحواراتها في وادي حضرموت في اليمن عندما كنا هناك عام 1989.
برنار نويل صوتٌ ينحت اللّغة والمعنى بإرادة عاشق للجمال والنّقاء الإنسانيّ يصعبُ إيجاد نظير له اليوم.
في ذكراك الأولى صديقي برنار هاتان القصيدتان؛ كرمى لروحك ولذكراك الخالدة كما قصائدك.
أنا الموكِبُ الآنَ
- إيليان، لا تُخبِرْ أحدًا
- لا.. لنْ أُخبِرَ حتّى نفسي.
الموكبُ يلتئمُ
يزدحمُ بالمشيّعينَ
منَ
الشّجرِ والغيمِ
الطّيرِ والبَجعْ.
وأنا أمشي
للمرّةِ الأولى
أكتشِفُ صَمْتَ الغَابَةِ
وخَرَسَ الجُداجُدْ.
وأمشي.
المسيرةُ تتحرَّكُ في كُلِّ اتّجاهٍ
والجِهاتُ كاهِنٌ
تتنازَعُهُ خُطوتانِ
عموديّةٌ وأفقيَّةٌ.
الأشجارُ تحتَمي بِجُذورِها
الطَّيرُ بسمائه
البَجَعُ بِبُحَيْرتهِ
والجَنَازَةُ باللّامَكانْ.
بدأتِ المَسِيرةُ تَتَنَاقَصُ
وأنا أمشي
الجَنازة تَمشي أمامي
ورائي فوقي
وفيَّ.
لمْ يَعُدْ في المَوكبِ سِوَايَ
أنا الموكِبُ الآنْ.
إنّها لحظةُ التّجَلّي
والتخلّي
هيَ الرّؤية الّتي لا تُرَى
العينُ الرّماديّةُ
الّتي تَحفَظُ النّارَ
وَعِنَاقُ
اليَدِ المَبتورَةِ.
الغابَةُ
كاتدرائيّةُ أسرارٍ
الأشجارُ تَكتِمُ
الطُّيورُ لا تُصْغِي
البَجَعُ لَنْ يَعْثُرَ عَلَى الكَلامْ.
خَلا الكَوكَبُ مِنْ سُكَّانِهِ
ليسَ هُنا سِوانا
..
بِرنارْ: هَلْ تَسْمَعُني؟
أينَ أنتْ؟
مع برنار.. اثنتان وعشرونَ محطَّة في حضرموت
1
طائرٌ أبيضُ
عائدٌ مِنْ رِحلَةٍ إلى الشّرقِ
سَقَطَ قُرْبَ حُلْمِكِ
نادو.
2
الشّرقُ والغربُ جناحانِ
يَستريحانِ عَلى
شَجرةٍ دائمَةِ الحريقْ.
3
اللهُ
هوَ الغائِبُ الوَحيدُ
الّذي لَنْ تَرَاهُ
إلّا بعدَ أن تقتلَهُ أو يَقتلَكْ.
4
الوَحدانيّة
تولَدُ وَتموتُ في عَيْنَيْنِ
لا في الثّكَناتِ الّتي تُبَدّلُ أسماءَهَا
إلى كاتدرائيّات وَمَساجد
وَجَلّاديها إلى قِدّيسين.
5
اختارَ الإقامَةَ في الرَّماديّ،
لمْ يَبْقَ مِنهُ إلّا رَمَادِ
الحَلّاج.
6
اعتادَ أنْ يَعبُرَ حَاجِزَ المَوتِ
وَيَعودَ كَفلّاح مِنَ الحَقْلِ
هَذهِ المَرَّة
كانَت الكَلِمَاتُ أثقلُ مِنْهُ.
7
الورقةُ البيضاءُ كُرسيُّهُ للاعتراف
أمامَ الكاهِنِ الأعظمِ،
الجسد.
8
النهارُ بئرٌ جافَّةٌ
يردِمُها بِكُلِّ ما في يَدَيهِ
وفي اللّيلِ يُدْلِي رأسَهُ
علّهُ يَرَى صُورَتَهُ في الماءْ.
9
لا أكتبُ عَنهُ
أنا فَقَط أبحثُ في الخارِجِ
عَنْ نيزَكٍ سَقَطَ فيَّ.
10
في مفازَةٍ نائِيَةٍ بَيْنَهُ
وبينَ المَوْتِ
يَرتجلُ نهارَهُ
مِثلَ عُودِ ثِقَابْ.
11
يدّعي أنّهُ بَدَأ الكَلَامَ
بعدَ إطلاقِ الذّراعَيْنِ
لا الشّفتينِ.
ألا تَرَى خَرَسَ الحَيَوانِ
الّذي يَدِبُّ عَلَى أربَعْ.
12
ظلالُ نُجومٍ تَموتُ
ونيازك تترى
في ليل الوجه.
13
في النّظَرِ
في الكِتَابَةِ
يَرْوي ذِكرى أسفَارٍ
لمْ يَعُدْ مِنها.
14
أمامَ لَوحةٍ عَلى حَائِطٍ
يدخُلُ مِثلَ كاهِنٍ إلى مَعْبَدٍ مُحَطَّمٍ
ليُعيدَ تَرْميمَهُ.
15
عانَقَني على رَصيفِ المَحَطَّة
كَعَمُودِ ضَوْءٍ مِنْ كَوكَبٍ غَريب.
أمسِ
عادَ إليهِ
في تَابُوتْ.
16
يَجْهَلُ لُغَتي
وعندَمَا يَسْمَعُني أقرَأ فِيها
يقولُ لي،
أراكَ الآنْ.
17
الصَّحراءُ
إنّما لِمَنْ يُقيمُ فِيهَا
كثيبَ رَملٍ.
18
الغروبُ
إنّما لِمَنْ يَرَى المُحَاقَ
في عيونِ النِّساءِ
في حَضْرَمَوت.
19
الطِّينُ
إنّما حِينَ يَعْرَى
في أجسادِ القَرَويَّاتْ.
20
بعدَ أنْ أنقذَنَا سَائِقُ السيَّارَةِ
مِنْ هَاويةٍ سَحِيقَة
على سَفْحِ جَبَلٍ في حَضْرَموت
قالَ لي:
عرفَ المَوْتُ أنْ يَخْتَارَ المَكَانْ.
21
رُقيمٌ صَلْصَاليٌّ لِجرح
نزفَ آخرَ قَطرة مِن دمِه
في ريفٍ باريسيّ.
22
يحفُرونَ اسمَهُ
في رُخَامٍ
وكانَ يُفَضِّلُ لوْ حَفَرُوهُ
في رِيحْ
برنارْ نويل.
- كتبت لمناسبة رحيل برنار نويل وفي يومه 13 نيسان/أبريل 2022