ظلّ النصّ الشّعري المكتوب باللّغة العربية في الجزائر، خلال العشريتين اللّتين تلتا الاستقلال الوطني 1962، إمّا موغلًا في القدامة من حيث الشّكل، وإمّا لصيقًا بالخيارات السّياسية والأيديولوجية من حيث الخطاب، فهو لم يسلم من جبّتي التّقليد والتّبعية، ما عدا أصوات قليلة فهمت أنّ الكتابة الشّعرية تقوم على الحفر لا على تسوية التّراب.
نقلت القصيدة الثمانينية في الجزائر سؤال بناء الوطن إلى سؤال بناء الإنسان
مع مطلع ثمانينيات القرن العشرين، حيث هبّت رياح اقتصاد السّوق على المشهد الجزائري، وشرعت أسئلة الهوّية والذّات تفرض نفسها عليه، من مختلف العائلات الثّقافية والسّياسية، تعزّزت تلك الأصوات بأصوات أخرى، بما شكّل جيلًا عُرف بجيل الثمانينيات، ولا تزال بعض أصواته على قيد الكتابة والحضور حتّى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: مارسيل بوا.. من يترجم الرّواية الجزائرية بعده؟
نقلت القصيدة الثمانينية في الجزائر سؤال بناء الوطن إلى سؤال بناء الإنسان. والمراهنة على المرجعية المشرقية إلى المراهنة على تشكيل مرجعية جزائرية. فانزاحت الأسطورة إلى أعشاشها المحلّية، من غير أن تتخلّى عن روحها الكونية، فهيمنت نبرة التّصوّف على بعض التجارب، في محاولة للتّماهي مع العناصر عوضًا عن وصفها من الخارج، وهو الخيار الفلسفيّ واللّغويّ والجماليّ، الذي أعطى سلطةً للذّات على حساب سلطة الجماعة.
يأتي الشّاعر عثمان لوصيف (1951) في طليعة هذه الحساسية، التي ربطت أسئلة الذّات بأسئلة الكون. وحرّرت لغة النّص الشّعري الجزائريّ من اللّغة الرّومانسية الموروثة عن تقليد المدوّنة المشرقية، واللّغة المفخّخة بالأيديولوجيا الرّامية إلى تسخير نفسها للدّفاع عن الحقوق، بلغةٍ هامسةٍ ورامزةٍ ومؤمنةٍ بتأنيث العالم، من غير أن تتخلّى عن خيار الرّفض لكلّ ما هو تنميط للإنسان والمكان.
اجتمعت المدارس والحساسيات والأصوات في نصّ عثمان لوصيف، لكنّها ذابت في صوته ورؤيته الخاصّين، فلم تعد تحيل إلّا عليه. وقد كانت تجربته سبّاقة إلى انتقال المشهد الشّعريّ الجزائريّ من شعرية الجيل إلى شعريّة الفرديات. وهي خطوة لم تحقّقها إلا أسماء تُعدّ على كلمات الومضة الواحدة، سواء في الثّمانينيات أو في العشريات، التي تلتها إلى غاية اليوم.
رغم هذا الإنجاز/ المنجز، إلا أنّ عثمان لوصيف ظلّ زاهدًا في استقطاب الأصوات إلى واحته الشّعرية لتسبّح بحمده بكرةً وأصيلًا، وفي التّهافت على الأضواء النّقدية والإعلامية مثلما فعل ويفعل غيره. فهو بدأ وظلّ وفيًّا لخيار النّدرة في المنابر خارج النصّ. إذ حقّق مزاوجة جديرة بالدّراسة والانتباه، بين غياب الشّاعر وحضور القصيدة.
أصدر عثمان لوصيف أكثر من عشرة دواوين، على مدار ثلاثة عقود، منها "الكتابة بالنّار" عام 1982، و"شبق الياسمين" عام 1986، و"أعراس الملح" عام 1988، لكنّ حضوره في الملتقيات والمهرجانات والبرامج الإذاعية والتلفزية لم يتجاوز نصف هذه المرّات. بل إنّ رؤيته باتت غير متاحة حتّى في بيته، إذ حدث أن زاره بعض محبّيه وعادوا من غير أن يروه. ولم يتحقّق لهم ذلك إلا هذه الأيام، من خلف زجاج غرفة الإنعاش.
اجتمعت المدارس والحساسيات والأصوات في نصّ عثمان لوصيف، لكنّها ذابت في صوته ورؤيته الخاصّين
مع ذلك بقي عثمان لوصيف يُنافس، في حضوره النصيّ والإنسانيّ، الأسماء التي لم يخلُ مجلس أو مهرجان أو برنامج أو جائزة منها، فوقعت في "مقام الابتذال" ووقع في "مقام الجلال". ذلك أنّه شتّان بين الوفاء للمنبر والوفاء للكلمة.
اقرأ/ي أيضًا: عزيزي عبد اللطيف اللعبي.. لم يعد هنالك شيء أجمل من الصمت والحلم
إنّ تجربة عثمان لوصيف في طريقة تسويق نفسه ونصّه تشكّل ظاهرةً مدهشةً، داخل حقلٍ يُعرف تاريخيًّا بتضخّم الذّوات وشراهتها في الحضور والظهور والانتشار. وهي أصلحُ لأن تُقدّم اليوم أكثر من أيّة فترةٍ فائتةٍ، في ظلّ هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يكاد الكاتب الجديد يصوّر حتّى لحظة دخوله إلى بيت الخلاء، بصفتها نموذجًا للزّهد والنّزاهة، اللذين يُثمران حضورًا منزّهًا عن الزّيف والابتذال. فمن يستطيع أن يكون مثل عثمان لوصيف؟
اقرأ/ي أيضًا: