الكلّ كان يساهم في أعمال البيت، بما فيهم الراحل، من تنظيف وطبخ واعتناء بالحديقة"، يصرّح عصام عابد الجابري، نجل المفكر الراحل محمد عابد الجابري، في حوار له مع "ألترا صوت".
اليوم، ومن خلال هذا الحوار المثير، يدخلنا الدكتور عصام إلى مساحات مجهولة من حياة المفكر الراحل، ويكشف لنا، ولقرَّائه الأوفياء، وقائع من معيشه اليومي.
- كيف كان يعيش الجابري داخل بيته؟ من خلال معرفتنا بكم، يمكننا أن نقول إنكم الابن المقرب لأبيكم، المفكر الراحل محمد عابد الجابري، فما هي أوجه هذه العلاقة الحميمية التي كان يربطها الدكتور عصام عابد الجابري مع الأب محمد عابد الجابري؟
يذكرني سؤالك بواقعة حدثت لي مع الراحل، في مراهقتي كنت أريد إقناعه بأن يشتري لي دراجة نارية، فدخلت عليه مكتبه وبدأت في مخاطبته بكل ثقة قائلًا: "بما أنني ابنك المفضل".. بمجرد أن نطقت هذه الجملة حتى قاطعني قائلًا: أترى أصابعي هذه؟ صحيح أنها غير متساوية لكن هل أستطيع أن أفضِّل إصبعًا منها على آخر؟".
لم يكن محمد عابد الجابري يفرض آراءه أو اختياراته على أفراد عائلته
العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة معقدة، لكن بصفة عامة، طبعًا هناك استثناءات، لكن على العموم لا يمكننا أن نقول إن هذا مقرب أكثر من الآخر عند والديه. ما يقع هو أن شخصيات الأبناء تكون مختلفة، أو أن ظروفًا إما صحية أو تتعلق بالتفوق الدراسي أو تجعل الآباء يكيفون تعاملهم مع أبنائهم على هذا الأساس، وهذا لا يعني أنهم يفضلون الواحد على الآخر.
اقرأ/ي أيضًا: برهان غليون: الرهان دائمًا على الشعب
يمكنني القول إنه بسبب بعض المتاعب الصحية عندما كنت صغيرًا، حيث كنت أعاني من مرض الربو، جعلت الجابري يكون أكثر اهتمامًا بي. ومن جهة أخرى، كما هو معروف لقد كانت الوالدة هي التي ترقن كتب الجابري على الآلة الكاتبة، حيث كان الراحل يُملي عليها النصوص وهي تكتب، وأنا كنت دائمًا أجلس إلى جوارهما أثناء هذه العملية، مثار الفضول والاهتمام.
- أما العلاقة مع الجابري الفيلسوف؟
تحضرني صور من الذاكرة، وأنا ابن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، مرّة كلفني أستاذ التربية الإسلامية بإلقاء عرض، نسيت الآن موضوعه، لكنني أتذكر أنني خلال العرض ركزت على أمجاد المسلمين وكيف أنهم بنوا حضارة فريدة من نوعها. ولما انتهيت من العرض علق الأستاذ قائلًا: "هذا الكلام يجب أن تقوله لأبيك".
مثل هذا التناقض الذي كنت أعيشه، كوني ابن محمد عابد الجابري، وفي نفس الوقت أعيش حياة اجتماعية خارج البيت مع عالم له موقف من السيد الوالد، كانت من الظروف التي جعلتني أهتم بمشروعه الفكري. وكنت كثيرًا ما أرجع إليه كي أناقش معه بعض الأفكار أو ليشرح لي ما تعذر عليَّ فهمه.
أظن أن هذا كذلك جعل علاقتي بالراحل مغايرة لعلاقته ببقية إخوتي، حيث كثيرًا ما كنت أدخل معه في جدالات فكرية، والتي كانت في بعض الأحيان تخرج عن نطاق الاحترام الذي يجب أن يكنه ابن لأبيه، لكن هذا الأمر تحول بسرعة، خصوصًا بعد مرحلة المراهقة، إلى نوع من الحب والإعجاب والانبهار، انبهار بحكمة الأب وذكائه وعمق نظرته.
- ما جذور أشكال هذه العلاقة في ماضي الجابري وذاكرة طفولته؟
كما يعرف المتتبع لسيرة الجابري، أنه فقد أمه في سن مبكرة - وهو ابن السابعة إذا لم تخني ذاكرتي - وعاش بعيدًا عن أبيه في حضن جده من أمه وخاله. ويمكننا القول إن هذا ما جعله، وبصفة ربما لا شعورية، أن يكون قريبًا جدًا من أولاده، يتابع أحوالهم حتى عندما كبروا وأصبحوا مستقلين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنني كلما قرأت الفصل الذي خصصه لأمه في مذكراته "حفريات في الذاكرة" أجد عينيَّ تذرفان دموعها عدة مرات رغم أني لست رجلًا حاضر الدمعة بسهولة.
- كيف كان يدير المرحوم الجابري ديمقراطية بيته؟ وهل كان يدفع أبناءه إلى تتبع خطاه المهنية والدراسية؟
من الصعب أن نتكلم في مجتمعاتنا العربية الإسلامية عن ديمقراطية داخل البيت، ولربما كان الراحل يشكل استثناء. إذ لم يكن يفرض آراءه أو اختياراته، بل على العكس، كانت الحرية والاحترام المتبادل أساس التعامل بين أفراد العائلة.
وباختصار، يمكننا القول إن الجابري كان يجسد في تعامله معنا تصوره للديمقراطية. بشكل أوضح، لم يكن الراحل يؤمن بالديمقراطية النيوليبرالية التي تجعل حرية الفرد فوق كل اعتبار. فلقد كانت التقاليد واحترام المجتمع الذي نعيش فيه من الضرورات التي يجب الالتزام بها، وخطوطًا لا يمكن تعديها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكننا القول إن بيت الجابري كان يجسد نوعًا من الاشتراكية الاجتماعية، فالواجبات والحقوق داخله متساوية بين الكل، والكل يساهم في أعمال البيت –بما فيهم الراحل- من تنظيف وطبخ واعتناء بالحديقة… وكثيرًا ما كان يتدخل عندما يشعر أن الأكبر سنًا يحاول استغلال الأصغر منه، أو التهرب من واجب من واجباته.
وهنا أفتح قوسًا لأكشف عن جانب من حياة الراحل الجابري غير معروف. لقد كان رحمة الله عليه يتكلف بإصلاح جميع الأمور التقنية في البيت (مثل الأعطال الكهرباء وأعطال صنابير المياه) وقليلًا ما كان يستأجر تقنيًا للقيام بذلك العمل عنه. كما كان مولعًا بالبستنة، وكان هو من يتكلف بحديقة المنزل.
كان محمد عابد الجابري يصلح جميع الأمور التقنية في بيته بيديه، مثل الأعطال الكهرباء وصنابير المياه
اليوم الذي نقص فيه العشب يوم استثنائي، تشارك العائلة كلها في العملية بجدية وسرور، وكنا دائمًا نلح عليه بضرورة شراء ماكينة كهربائية لقص العشب لتسهيل العملية، خصوصًا أن الحديقة كبيرة، فكان يعدنا بأننا سنصنع واحدة، لأنه يؤمن بضرورة استعمال ما نصنعه، وهذه كانت فرصة ليحكي لنا عن المهاتما غاندي وسياسته لمقاومة الاستعمار باستعمال سلاح المقاطعة.
اقرأ/ي أيضًا: كريم مروة: ثورات الربيع العربي بوصلة نحو المستقبل
بالفعل، ذات يوم وكان يوم عطلة، نادى علينا وقال: "اليوم سنصنع الآلة". تعجبنا للأمر، وقبل أن نبدي أي اعتراض، اتجه نحو غرفة كنا نجمع فيها ما لم يعد صالحًا، وأخرج منها سيارة كنا نلعب بها لما كنا صغارًا وأخد منها العجلات والهيكل وذهبنا عند حداد أضاف إليها قطعة. ثم عدنا الى المنزل وأخذ محركًا كهربائيًا من آلة تنظيف ورثناها من الفرنسيين الذين كانوا يسكنون بالمنزل، فركبه في الهيكل وأضاف العجلات ثم آلة حادة، وهكذا أصبح عندنا آلة كهربائية لقص العشب.
أما فيما يخص الشق الثاني من سؤالك، فقد كان دائمًا يترك كل واحد ينمّي ميولاته ويختار طريقه بنفسه.
- كيف كان يتفاعل المرحوم الجابري مع الفنون؟ موسيقاه المفضلة؟ هل كان مهتمًا بالسينما؟ وكيف كانت متابعته للإعلام كذلك؟
لم يكن للراحل اهتمام بالسينمًا، أما فيما يخص الموسيقى فكان من المعجبين بفيروز وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم. أما بخصوص الإعلام فلقد كان دائمًا يتابع نشرات الأخبار الوطنية والدولية، ويقرأ جريدة الاتحاد والعلم، وبعض الجرائد العربية وبعض الجرائد الدولية كـ Le Monde Diplomatique.
- هل كانت بيت الجابري مسرحًا لنقاشاته الفكرية، أم كان الراحل يحتفظ بمجاله الخاص منغلقًا على حميميته الداخلية؟ ما هي بالضبط مساحات تماهي محمد عابد الجابري الإنسان، والجابري المفكر في علاقته معكم وفي حياته اليومية؟
بالتأكيد! كان بيت الجابري قِبلة يحجها الأصدقاء والمعجبون والسياسيون، من داخل وخارج المغرب.
بكل أمانة، لقد كان الراحل يجسّد فعلًا المثقف الملتزم بأفكاره، لم ألاحظ يومًا تناقضًا بين ما كان يدعو إليه وتصرفاته، وهذه من سمات الراحل منذ صغره.
أتذكر آخر ليلة قبل وفاته، رحمه الله، وزيارتي الأخيرة له، حيث كنا نزوره كل نهاية أسبوع، ليلتها استعرض مسار حياته ورضاه عما حققه. ومما ذكر لنا حادثة وقعت له سنة 1953 بعد نفي المغفور له جلالة الملك محمد الخامس، حيث قام المستعمر عقب المظاهرات الطلابية بغلق المدرسة التي كان يدرس فيها. وبعد فترة التقى بأحد زملائه في الدراسة والذي أخبره أنه يمكنه استئناف دراسته في مدرسة فرنسية، وأن عليه أن يذهب إلى بيت المدير الفرنسي ويترك له ديكًا وملفه. إلا أن الجابري رفض تقديم رشوة وقرر إنهاء دراسته واجتياز امتحان الباكالوريا كمترشح حر.
ظل محمد عابد الجابري وفيًّا لأفكاره ومبادئه إلى آخر رمق. مبادئه كانت مجسدة في أسلوب حياته
ظل الراحل وفيًّا لأفكاره ومبادئه إلى آخر رمق، مبادئه كانت مجسدة في أسلوب حياته. مرة قررت أن أشتري له هدية، شيء يستعمله ويفيده في حياته اليومية وبما أنه كان يظل طول اليوم في مكتبه للبحث والكتابة اشتريت له كرسيًا وثيرًا من النوع الفخم بثمن باهظ. فلما دخلت عليه مكتبه بهديتي، رآني مسرورًا ورأى الكرسي فقال: "بكم اشتريته؟"، ارتبكت وطمأنته أن ثمنه معقول. فأجابني: "الله يهديك! إذا كنت أريد مثل هذا الكرسي لاخترت طريقًا آخر (يقصد المناصب الحكومية)". استعمله يومين ثم عاد إلى كرسيه القديم الخشن.
اقرأ/ي أيضًا: فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها
- وكي نختم حوارنا بشكل مرح؛ اذكر لنا واقعة، أو طرفة، وقعت لكم مع الراحل؟
عندما نجحت في البكالوريا قررت أن اجتاز مباراة الولوج إلى كلية الطب، ولكي يحفزني الراحل الجابري وعدني أنه سيعطيني مبلغًا كبيرًا إذا نجحت. ولما وفقت في أمري، ذهبت له مطالبًا بالمبلغ، فغضب وأمرني بالخروج من مكتبه قائلا: "لا أريد أن أراك الآن!".
مرت السنون وذات يوم ذكرته بالحادثة، فأجابني قائلا: "أتريد أن أعطي لشاب في 18 من عمره مثل هذا المبلغ؟ وهي نمشي نلوحك (أرميك) في البحر أحسن". فضاع عني المبلغ وبقيت الذكرى عالقة في ذهني.
اقرأ/ي أيضًا: