صار بالإمكان الحديث عن "مكتبة داعش" في حقل الدراسات العربية اليوم، نظرًا لكثرة ما كتب، وما سوف يُكتب، في موضوع "الدولة الإسلامية" تأييدًا أو رفضًا أو تحليلًا.
من بين العناوين التي ضمتها هذه المكتبة، يبرز كتابا في طريق الأذى- من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش (دار الشروق 2015) ليسري فودة، والدولة الإسلامية: الجذور، التوحّش، المستقبل (دار الساقي 2014) لعبد الباري عطوان.
تأتي أهمية الكتابين أنّهما صادران عن صحافيين عربيَيْن عرفَا شهرةً واسعةً بسبب علاقتهما التي فرضتها المهنة مع تنظيم القاعدة. فعطوان التقى بأسامة بن لادن في تسعينيات القرن الماضي، أي قبل شهرته وتحوله إلى المطلوب الأول لدى العديد من أجهزة المخابرات الدولية؛ في جبال تورا بورا بأفغانستان، ومكث معه في الكهف ذاته ثلاثة أيام، ليخرج بحوارٍ هو الأول من نوعه.
حماسة عطوان تجعل القارئ يظن أنه يتحدث عن حركة تحرر وطنية، لا عن تنظيم متشدد ذي مشروع عنصري
بينما كان فودة قد قدّم حلقتين استثنائيتين في برنامجه سري للغاية، الأولى بعنوان الطريق إلى 11/ 9 (بُثّ في 2002) التقى فيها مُدبري التفجيرات التي هزّت الولايات المتحدة الأميركية والعالم، والثانية العبور إلى المجهول (بثّ في 2006) التي يصور فيها رحلة فاشلة إلى مناطق المقاومة التي كانت تخوض حربها ضد الاحتلال الأمريكي للعراق.
بمقدار اختلاف الكتابين إلا أنّ ثمة تشابهًا خفيًا بينها، أولهما أنهما يستندان إلى مجدٍ شخصيّ سابق، ويحاولان سحبه إلى لحظتهما الراهنة بعدما بات في عداد المفقودات، تمامًا مثلما يفعل المتطرفون الإسلاميون وهم يريدون استعادة زمنٍ ذهبيّ آخر، هو زمن الإسلام الأول.
كما يتشابهان لجهة الاعتماد الكامل على التجربة الشخصية، فحيث يبدو "في طريق الأذى" تفريغًا للحلقتين المذكورتين من البرنامج، مع بعض الشرح اللازم لما لم يظهرْ على الشاشة من مشاعر ومواقف عديدة، كذلك هو الحال مع كتاب "الدولة الإسلامية"، بفارق أنّ الأخير يسرد ما هو شخصي في البدايات فقط، ليذهب إلى قراءة واسعة لنشأة التنظيم ومحيطه السياسي والاجتماعي وآفاقه ومستقبله.
كما أنّهما يتطابقان في المعاينة والتركيز على سيروة تنظيم القاعدة لجهة أنه أصل "الدولة الإسلامية"، وعلى ضرورة مراجعة تجربة السلفية الجهادية منذ أفغانستان وحتى العراق، كي نفهم كيف نشأت الفكرة على يد أبو مصعب الرزقاوي. وسنجد هذا التطابق ذاهباً ليكون سردية متفقاً عليها في مختلف الكتب التي تأخذ على عاتقها رصد داعش.
ويظهر الافتراق في أنّ فودة لا يضيف جديدًا إلى ما قدّمه تلفزيونيًا، بل تظلّ المادة التلفزيونية متفوقة على المكتوبة. ومن المؤسف أنّ "في طريق الأذى"، في كثير من الأحيان، لا يبدو إلا نوعًا من التذكير بالبرنامج لا غير، وهو ما يضع القارئ أمام غايات المؤلف الشخصية، إذ جعل كتابه نوعًا من التعويض عن عدم الحصول على أي سبقٍ صحافيّ في موسم نجومية داعش، وهذا بحد ذاته يشير إلى أنّ الجماعات السلفية لم تعد تحتاج إلى الصحافة والإعلام لترويج نفسها ومقولاتها، بعدما أعطتها وسائل التواصل المنصّات التي تستطيع أن تقول فيها كلّ ما تريده.
سيبدو العنوان الفرعي "من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش"، بعد الانتهاء من قراءة الكتاب، بالإضافة إلى شهرة داعش وفودة، فخًّا تجاريًّا لكتاب بيّيع ليس غير.
على المقلب الآخر، يتابع كتاب عطوان أحوال التنظيم، والأدوار التي لعبها الاحتلال الأمريكي للعراق والحكومة المركزية في صعود نجمه وشعبيته. لكنه يضع نقطة البداية عند صدام حسين، الذي تحوّل إلى الله، وتبنى الهوية والجهاد الإسلاميين لمواجهة الغزو الأمريكي، عبر حملته الإيمانية التي ألغى فيها كل المظاهر العلمانية للدولة، وكتب بدمه عبارة "الله أكبر" على العلم العراقيّ.
واجه الأمريكان مجموعات مجاهدة سنية وشيعية، بالإضافة إلى القاعدة والبعثيين، وبعد خمسة أشهر من الاحتلال، توحّدت الفصائل السنيّة تحت مظلة واحدة باسم "جيش أنصار السنة"، ورفض تنظيم "التوحيد والجهاد"، الذي كان يقوده أبو مصعب الزرقاوي، الانضمام إلى هذا الجيش.
الزرقاوي الذي أسّس تنظيمه على الوحشية وسفك الدماء، سماه في البداية بـ"التوحيد والجهاد" (بين عاميْ 2000- 2004)، ثم أسماه "القاعدة في بلاد الرافدين" (بين عاميْ 2004- 2006)، ليصبح "مجلس شورى المجاهدين (2006). وحين ستؤول قيادة التنظيم، بعد اغتيال الزرقاوي، إلى أبي عمر البغدادي (اغتيل في 2010 وخلفه أبو بكر البغدادي) سوف يطلق عليه اسم "الدولة الإسلامية في العراق" ( بين عامي 2007- 2013)، وليصبح لاحقًا "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وبعدها "الدولة الإسلامية" فقط.
يتوقف عطوان عند تأسيس الأمريكان في 2006 لقوات "أبناء العراق"، أو ما يعرف باسم الصحوات، استغلالًا لحالة التململ في صفوف العشائر من السياسات المتشددة للدولة الإسلامية. وتقول الإحصاءات إنه جرى تجنيد 100 مقاتل، يحصل كل عنصر على مرتّب شهري وقدره 300 دولارًا.
وبسبب الصحوات تراخت قبضة تنظيم الدولة، لكنّ المشكلة أن حكومة نوري المالكي رفضت دمج نصف هذه القوات في الجيش والأمن، وكان لهذا بالغ الأثر في تحويل هؤلاء الشباب إلى وحوش تتطلع إلى الانتقام. في المقابل تصرفت التيارات المتشددة بحكنة سياسية تفتقدها الحكومة المركزية، وذلك باستيعابهم في صفوفها شريطة توبتهم.
يناقشُ الكتابُ مختلف الأسئلة المطروحة بقوة على الساحة؛ هل داعشُ صناعةٌ أمريكية؟ أم هي صناعة إيرانية؟ ما سر نزعة التوحشِ الضارية؟ من أين يأتي المقاتلونَ الأجانبُ، وما هي دوافعهم؟ ما هو مستقبل الدولةِ الإسلامية؟
المثير للاستهجان أن حماسة عطوان تجعل القارئ يظن أنه يتحدث عن حركة تحرر وطنية، لا عن تنظيم متشدد ذي مشروع عنصري.
بالإضافة إلى مشاكل تحريرية حقيقية، يستغرب القارئ أن صحفياً متمرساً مثل عطوان يقع فيها، كأنْ يفتح العديد من الأقواس ليشرح لنا معنى كلمة "قسري"، فتأتي هكذا (بالقوة)، أو يفتح قوساً بعد كلمة "لبنان"، فيشرح الأمر هكذا (جار لإسرائيل). صحيح أن مثل هذه الأشياء ما يمكن تبريره بأنها شرح للقارئ الغربي، لكنّ الجواب إن هذه هي النسخة العربية! ناهيك عن التوتر الذي تسببه عبارة موجودة بشكل كبير "سنخصص فصلًا لهذه الفكرة"، فالمفروض أن القارئ سيصل إلى هذا الفصل ولن يكون بحاجة إلى هذا التذكير النافل.
كتاب عطوان أكثر جدية من كتاب فودة، على الرغم من أنه ذو طابع صحافي ينتمي إلى مقالات الرأي الحر لا البحث العلمي، ورغم وجود سرد مدرسي في كثير من الفصول لدور الأنظمة في صناعة المتشددين، إلا أن الكتاب يفيد القارئ غير المتخصص، ويثير أسئلة عديدة لدى المتخصصين، لا سيما حين يشدّد أن فرصة بقاء "الدولة الإسلامية" كبيرة، لأنها أكثر تماسكًا من القاعدة، وتعيش بين أهلها وليست ضيفة، كما أنها لا تأتمر بإمرة أي ممول.