منذ الصفحة الأولى في ديوانه الموسوم بـ"كان نائمًا حين قامت الثورة"، يلمّح المصري عماد أبو صالح إلى النزاع الأخويّ الدموي الأول في التاريخ، قابيل وهابيل، كدلالةٍ ما على النزاع المستمر حول العالم في الرّاهن من الأيَّام.
زاوية نظر عماد أبو صالح في شعره مغايرة تمامًا لما هو معتاد وبدهيّ
إذن، هو التدوين الذي يؤرِّخ لكلّ شيء بلغة أقرب إلى الأنفس من نشرات الأخبار الكثيفة والتقارير. لا يسهو أبو صالح عن الغوص في لغته النثرية المعتادة منذ باكورة دواوينه التي كتبها بغموضِ شبحٍ لا يُرى إلّا أنّه يَرى كلّ شيء بجلاء، لقد أبصرَ "الخطأ"، العربة الأولى التي يجب أن يركبها الإنسان حتّى يكونَ إنسانًا بالمعنى الصحيح، وليس ما يتمّ تداوله في الأحاديث الاعتياديَّة، الخطأ عندما تكونُ سمة الإنسان المعاصر ودونما خوف من العبث الذي يودي بالحياة إلى الهاوية، الخطأ الذي يجعل من المرء عظيمًا وسببًا في تحريك المياه الرّاكدة والقضاء على السبات المملّ "تحيّة خاصَّة لك أنت يا يهوذا، يا إمام الخطّائين، يا خالدًا في اللعنة، لولاك ما كان مجد المسيح".
اقرأ/ي أيضًا: الشعر الميّت على فيسبوك
يختلف عماد أبو صالح عن الكثيرين مِمّن كتبوا، ومنبع الاختلاف أنّ له الزاوية الخاصَّة التي ينظر من خلالها إلى العناصر حوله، زاوية مغايرة تمامًا لما هو معتاد وبدهيّ، في نصّه المعنوَن بـ: "ذمّ الأشجار" يورِد عماد عناصر للتعذيب ولحجب الهواء رادًّا إيَّاها إلى "الشجرة" التي يتغنّى بها الشعراء والناثرون!!
"ماهيَ العصا؟
غصن شجرة،
ما هي طاولة التعذيب؟
جذع شجرة،
ما الصليب، ما الباب، الذي يحجب الهواء، ما هو النعش؟".
اقرأ/ي أيضًا: ليس أدبًا عربيًا
أن نحمّل الشجرة إثم شقاء البشريَّة، هو ذا النثر في أبهى تعبيراته: "الشجرة أصل شقائنا، منذ أن أغوت آدم بتفاحة، نحن -بسببها- ندفع ثمن خلافات الله مع الشيطان".
الشعر والثورات:
في خضّم التفاصيل العديدة التي تولد مع الثورات ثمّة ما هو مخفيّ أو معطَّل يحتاجُ إلى صعقة بسيطة كي يكون واضحًا ويلمع، ففي كلّ ما كُتِب منذ بدايات اندلاع ثورات الربيع العربي لم يفلح أحد في نقل الصورة النقيضة تمامًا، صورة المشرّد أو البائع المتجوّل الذي استنهضه أبو صالح من سباته بعد آلاف السنين، البائع ذاته الذي ذكره الإسكندراني كافافيس بترميزٍ يُستشفّ منه الهباء في كل ما يتعلّق بمفردة الـ"الثورة"، هذا ما يودّ أبو صالح أن يقوله، على الأقلّ بالنسبة للقارئ المختلف عنه، الذي غرق في نشرات الأخبار والسوشيال ميديا، وأن يَلقى نفسه (أي القارئ) في مواجهة صور الخراب والدمار، "الثورة دمّرت حياتي"، هذا ما قاله يسينين لأبي صالح قبل أن ينتحر.
أنا مجرّد متسوّل
لكنني
خدمت الثورة
أكثر من الثوار أنفسهم
كيف؟
خدمتها بعدم مشاركتي
بقيت جالسًا
-على هذا الرصيف-
أمدّ يدي للعابرين.
لا يكف الشاعر عن "ذمّ" الثورة، لأنّ كل الثورات تطيح بدكتاتور ليُقبِل ذاته الذي أطاح بالأخير، حركة دائريَّة للدكتاتوريَّات التي تتعاقَب جالبةً الخزي والعار للبشريَّة، مهملةً التفاصيل الدقيقة للألم الإنسانيّ، ألمُ المتسوّل والمشرّد دون نسيان ألَم الشاعر، أعظم الآلام.
مخاطبة الشعراء:
لا يكفّ عماد أبو صالح عن مخاطبة الشعراء في جلّ مجموعاته النثرية القديمة، فهو إن كان يذمّ "الثورات" فإنَّه يمدح الشعراء! والشعراء المخاطَبون هم على الأغلب: الإسكندراني قسطنطين بيتروف كافافيس، وفيسلافا شيمبورسكا، ولوركا، وآخرون، إذن هل هو تشابه مصائر الشعراء؟ أم أنّ زمن الشعر توقّف عند تلك الأسماء من وجهة نظر عماد؟ لا بدّ وأن أشباحًا تلوّح له آن كتابته أو ربمّا ثمّة من يربت على كتفه وهو غارق في التأمّل، الذاكرة المكوّنة لحياة الشعراء الشخصيّة استنبطها عماد من القراءات العميقة غير العابرة لما هو بين ثنايا الكلام المدوَّن، التفسير الأعمق والتفاسير المتعددة للنصّ الواحد، هذا سرّ الكتابة من وجهة نظر النقد، إلّا أنّ المزاجية الحادّة للشاعر/القارئ هي من تحكم في مثل هكذا شؤون، المزاجية التي تمدّ قدميها وتسترخي كفريسةٍ خرجت للتوّ من قبضة صيَّاد!!
أنا زرته لأسأله: "لماذا ترى البرابرة حلاً من الحلول"؟/ -قبل أن يجيبني-/ فقدَ صوته إلى الأبد
يسأل عماد كفافيس في معرض الإشارة إلى قصيدة الأخير المشهورة "في انتظار البرابرة": "أنا زرته لأسأله: "لماذا ترى البرابرة حلاً من الحلول"؟/ -قبل أن يجيبني-/ فقدَ صوته إلى الأبد". هنا أيضًا إشارة ما خافتة إلى لا جدوى الثورات، استنادٌ ما خفيّ على ما قاله الأوّلون في تفسيرهم للعالم وللتغييرات.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. أدباء مصححو صحف!
في قصيدة حواريَّة يتكشَّف القرف من الشعر واضحًا كالشمس:
-أعطني سيجارة
*تفضّل
-من أنت؟
*شاعر
-لماذا تجلس في الحديقة؟
*أنتظر الشعر
-لا يسكن هنا
*تعرف مكانه؟
-المزبلة.
اقرأ/ي أيضًا: