لا أظنّ أنّ ثمّة فنًّا خارج الفينومينولوجيا. الفنّ أوسع التّصنيفات وأكثرها جدّة وطراوة. لكنّه قد خرج غالبًا وكثيرًا عن فينومينولوجيا هوسرل وهيدغر وحتّى مرلو بونتي. والفينومينولوجيا، لو شئنا اختصارها شعريًّا، هي التوجّه إلى كلّ ما يراه الإنسان على أنّه معجزة من معجزات العالم، مهما قلّت قيمته في حياته اليوميّة، والوقوع تحت سحرِهِ طوعًا، والتخلّص من الرّواسب والأحكام الجاهزة في لاوعيه، من أجل حرّيّة أكبر في التأمّل. التأمّل من أجل ماذا؟ الإجابة تكمنُ في سؤال: لماذا من الضروريّ أن يكون للتأمّل نتيجةٌ واضحةٌ وصريحةٌ ككلّ الأوهام الّتي يخلقها العقل البشريّ؟
في الحقيقة لا تفهم الفينومينولوجيا إلّا السكون. إنّها فوتوغرافيا. تثبيتٌ للأشياء، تركيزها، ثمّ إعادتها إلى سياقاتها الحركيّة طازجةً نديّةً مضيئة الملامح كأنّها بنت الآن
ما إن تقع عينٌ على شيء كائن هنا، أو هناك، ناسجةً معه خيطًا سحريًّا من العاطفة، يمتدّ من الذاكرة، لكنّه يعيدُ اكتشافها متشبّثًا متجذّرًا في مستقبل لا أرض له سوى النبوءة، تحدُث الفينوميونولوجيا. والحديث عنها هنا كفعل لا كمنهج، إن الفعل ليس بالضّرورة حركةً جسديّة، بل ربّما حركةً "طاقيّة" تجاه الأشياء قد تبدو ساكنةً في ظاهرها. هل تفهم الفينومينولوجيا هذا السّكون؟
في الحقيقة لا تفهم الفينومينولوجيا إلّا السكون. إنّها فوتوغرافيا. تثبيتٌ للأشياء، تركيزها، ثمّ إعادتها إلى سياقاتها الحركيّة طازجةً نديّةً مضيئة الملامح كأنّها بنت الآن. كأنّها تقول حقيقتها للمرّة الأولى. الحقيقة الّتي تصدر عمّا وُلد للتوّ، عمّا لم يكن.. على حدّ تعبير أنطونيو بورشيا.
فتحت عينيّ صباحًا ونظرت إلى الشبّاك فوق رأسي مقلوبًا -وكنت أنا المنقلبة في الحقيقة- فرأيت سرب طيور مقلوب. ابتسمتُ قائلةً: إنّ هذا أحد الصّباحات الجميلة بلا أشباح ذاكرتي، بنات الكلب. ورحتُ أنسجُ حول هذه الطيور أوهامًا حتّى تخيّلت نفسي، بسبب التواء من الحماقة ينتابني أحيانًا، أنّي أسير بين هذه الطيور بعكسها. وفجأة تسارعت ضربات قلبي وكدت أقتلها جميعها لأنّها آلمتني، فأجنحتها أسرع من الوقت بكثير، والتيّار الّذي أحدثته الجماعة أقوى من جسدي الفرد الّذي أظنّه صلبًا (ضدّ كورونا على الأقلّ). ورحت أشتم وألعن هذه الرقّة الطائرة ناسيةً أنّ هذا السرب هو ما طرد أشباحي -بنات الكلب- من رأسي هذا الصباح. وحين تنبّهت لهذا، فكّرت بأنّ كلّ المرّات الّتي عاندت فيها، وحاولت أن أُخضِع الطبيعة من حولي، أنا سرب الوجوه الّذي يعدو في هذا العالم، خسرت. ثمّ تنبّهت إلى أنّ عليّ أن أسمح للأشياء بأخذي إلى قولِها، قبل أن أفكّر بأن أقولَها، لأنّ من غرائب الدنيا السبع ليس البرج المائل، بل الإنسان الأعوج الّذي لا ينطقُ إلّا بعد أن يرى ويسمع ويُنضج حواسه، ثمّ يقول بأنّه منتجٌ ومستقلّ وعظيم. لكنّني لم أشأ أن أجلد نفسي كثيرًا، فقلت: إنّ العين الّتي لا تصغي، تمشي عكس التيّار، فتفقأها الأجنحة الصاغية لنفسها. في ذلك الصباح لم أصغي، ففُقئت عين نهاري.
نتعلّم الإصغاء من التراث. لقد كانت جدّتنا فينومينولوجيّة حين رأت عصفورًا في يدها وشعرت بأنّ العصافير العشرة على الغصن ليست لها، لأنّها لم تمسك بها بعد، ولأنّها شبّهت جدّنا بالعصفور الّذي في يدها، وشبّهت باقي الرجال العشرة بالعصافير الّتي على الشجرة، فقالت: "عصفور بالإيد ولا عشرة عالشجرة”. وهذه قصّة مخترعة لأنّني أحبّ الاختراع.
وكذلك كانت أليس في بلاد العجائب حين ربطت الوردة الّتي أرادت بشدّة الحصول عليها من فرط جمالها، بمفهوم سعادتها، متسائلة عمّا إذا كان الوصول إلى السعادة يعادل مقدار الجهد الّذي يُبذل لأجلها!
ولم يجد بطل رواية "السأم" لألبرتو مورافيا، علاجه من مرضه "السأم"، إلّا حين استطاع أن يجد غموضه المنشود في امرأةٍ (سيسيليا) بلغت من السرّيّة ما أخرجه من كينونته نحو كينونتها فانفتح عليها بكلّ ما أوتي من جنون ونهمٍ لاكتشاف الذات، حتّى تمنّى الموت! هو الّذي من فرط سأمه لم يكن ليحرّك قفاه ليقوم بأيّ محاولة لقتل نفسه!
كانت جدّتنا فينومينولوجيّة حين رأت عصفورًا في يدها وشعرت بأنّ العصافير العشرة على الغصن ليست لها، لأنّها لم تمسك بها بعد
ليست مبالغةً أن نقول إنّ الفينومينولوجيا طبيعة في البشريّ مذ وجد في الحجر الصوّان الصامت كلامًا ملتهبًا، ومذ كسر "جوز الهند" الصامت لينطق كلامًا سائلًا، ومذ حدّق في امرأةً حبلى فظنّها معمل الإنسان ونصّبها إلهًا. لكنّ الميل إلى "مفهمة" الأشياء والطاقات والأفكار تسرّب من العقل الحديث إلى الطزاجة البدائيّة لأدمغتنا. مفهمة الخيال السائل بالسدود، مفهمة إيروس بالعمل، ومفهمة الفنّ بالنقد. البحث عن ما هي عليه الأشياء والثقة به، في حين أنّ الثقة الأوسع هي بما لم يصره الشيء بعد، بما قد يقوله يومًا ما. علاقة طويلة الأمد مع شجرة المعرفة الّتي أكل ثمرها آدم، ولن يفطمه عن مذاقها الحلو شيء أبدًا.
أفكّر الآن: هل سأصحو غدًا على سربِ طيور مقلوب، وأنساب معه في الهواء الطلق؟ أم سأعود للتحليق "عكس السير"، كما يملي عليّ الالتواء العميق فيّ، وفي زميلي الإنسان؟