الحديث عن أهمية الأدب ودوره في تغيير الذات، وربما العالم، يطول. ولكن ما أود الحديث عنه هنا، بإيجاز شديد، هو القصيدة الملحمية التي لعبت دورًا مركزيًا شديد الأهمية في تقدّم الحضارة الإنسانية، وكانت إحدى أهم الوسائل في بناء وحفظ الذاكرة الجماعية لشعوب وثقافات مختلفة، إضافةً إلى أنها عبّرت عن أخلاق المجتمعات البشرية وكوابيسها وأحلامها، وتم فيها تشكيل المفاهيم العامة عن معنى أن يكون المرء إنسانًا.
لعبت الملاحم في الأدب اليوناني الكلاسيكي دورًا كبيرًا في ظهور وتشكّل مفهوم "الأمة" لدى اليونانيين
استُخدمت القصيدة الملحمية، عبر التاريخ، أداةً لتوثيق المعارك والوقائع الكبرى والأحداث الفارقة والإنجازات العظيمة للبشرية. فمن بين الأشياء المهمة والملفتة للانتباه في "ملحمة جلجامش"، هو استخدام القصص الشفوية حول أحداث تاريخية فارقة، وأخرى تأسيسية مختلفة تشمل المجاعات والحروب والفيضانات وغيرها.
ولعل أهم ما يقال عن الشعر القديم، بمختلف أشكاله، أنه ساهم في تشكيل ثقافات وهويات الأمم. فعلى سبيل المثال، يذكر الكاتب والمؤرخ الأمريكي – الكندي وليام ماكنيل، في سياق حديثه عن تطوّر الملاحم واستخدام الشعراء لها للتعبير عن أفكار العدالة والسياسة والحرب، أن الملاحم في الأدب اليوناني الكلاسيكي أدت إلى ظهور وتشكل مفهوم "الأمة" لدى اليونانيين.
وفي كتابه "العالم المكتوب: تأثير القصص في تشكيل البشر والتاريخ والحضارات" (أثر، 2021/ ترجمة نوف الميموني)، يذكر الكاتب والباحث الألماني مارتن بوكنر أن "الإلياذة"، ملحمة هوميروس، هي إحدى أهم الأسباب التي دفعت الإسكندر المقدوني إلى غزو آسيا، التي دخلها بعد حرب خاضها على الطريقة الهوميرية.
فالغاية من حملته على آسيا لم تكن سياسية فقط. ذلك أنه، وبحسب بوكنر، أراد منها إعادة إحياء "الإلياذة" وتجسيد حروبها بطريقة تمكّنه من عيش أجوائها ولكن ليس بصفته قارئًا هذه المرة، وإنما بوصفه بطلها "آخيل". الأحرى أنه أراد إضافة فصل جديد إلى فصول قصتها على اعتبار أن حربه هذه ليست سوى امتدادًا لحروب طروادة، وأنه لذلك يمثّل "آخيل" ويجسد بطولاته.
هكذا تكون ملحمة هوميروس، التي يقول الباحث الألماني إنها كانت من بين ثلاثة أشياء رافقت الإسكندر طوال حملته، وأن الأخير اعتاد وضعها أسفل وسادته أيضًا، قد ساهمت في صناعة حدث فارق في تاريخ الحضارة البشرية.
في الكتاب نفسه، يتحدث بوكنر أيضًا عن العلاقة التي جمعت آشوربانيبال بـ "ملحمة جلجامش" في سياق سعيه لتوضيح دور الملحمة في الأحداث والوقائع التاريخية الفارقة والمؤسسة لعالم اليوم بصورته الراهنة. فيقول إن آشوربانيبال سعى إلى نسخ "ملحمة جلجامش" وحفظها بهدف ضمان وصولها إلى المستقبل وقرائه.
استُخدمت القصيدة الملحمية، عبر التاريخ، أداةً لتوثيق المعارك والوقائع الكبرى والأحداث الفارقة والإنجازات العظيمة للبشرية
لكن الأهم مما سبق أنها ساهمت في إرساء دعائم حكمه، وضمنت له توسعة حدود إمبراطوريته أيضًا. فالملحمة هي من حمَلَه على تعلّم مختلف لغات عصره، ودفعه إلى إتقان مهارات الكتابة التي أقام بينها وبين إدارة شؤون الدولة روابط وثيقة أسس من خلالها نظامًا بيروقراطيًا فريدًا جعل من سلطته مركزية، وأتاح له تسيير شؤون إمبراطوريته وتوجيه جيوشها وإدارة حروبها من قصره.
لعبت "الإلياذة" إذًا دورًا محوريًا في حملة الإسكندر على آسيا التي دخلها، كما أسلفنا، بعد حرب خاضها على طريقة حروب طروادة، التي أراد تجسيدها في آسيا. أما "ملحمة جلجامش"، فقد ساهمت في إرساء دعائم حكم آشوربانيبال، وتأسيس نظام حكم بيروقراطي أتاح له إدارة إمبراطوريته مترامية الأطراف دون الحاجة إلى مغادرة قصره. وفي الحالتين معًا، تبدو الملحمة أداة بناء ومصدر قوة.