تظهر الشعريّة العربيّة اليوم، على صورة شواطئ شديدة التعرّج والانكسارات، مفتوحة على الوحشة، بل على ما يشبه اليأس الحادّ، المفتّت، إنما ذا الإشراقات، والألق الذي هو ألق الشهوة إلى الحياة في عزّ دين الموت، وانبثاق الشّعاع الأوّل، من جدار الزمان العربي الأسود.
خرجت النصوص الشعرية الحديثة الأشد اعتكارًا ووجعًا من تلك الثنائية البسيطة والرومانسية: وطن - منفى/ إقامة - رحيل
وهذه الشعريّة ملتجئة إلى الحواشي والهوامش والمنافي، ليس حواشي وهوامش ومنافي الجغرافيا والخريطة فحسبُ، بل منافي الذات أوّل وقبل كل شيء.
اقرأ/ي أيضًا: سركون بولص في ذكراه الـ12.. قصيدة اللاوصول
لقد خرجت النصوص الشعرية الحديثة الأشد اعتكارًا ووجعًا من تلك الثنائية البسيطة والرومانسية: وطن - منفى/ إقامة - رحيل، وحتى من فكرة الوطن نفسه ومعناه، إلى مناطحة صخرة الوجود الإنساني نفسه، أينما كانت هذه الصخرة، وإلى أنّ الكائن يحملُ صَعْدهُ على ظهره والصَعْدُ هو الصّخرة التي يحملها الإنسانُ في الجحيم كما في النصّ القرآني، وهي عينها صخرة سيزيف كما في الميثولوجيا اليونانية، سواء سُمّي هذا الصعدُ فلسطين أو بغداد أو الجنوب اللبناني أو نيويورك أو باريس، أو "مدينة أين" بتعبير سركون بولص.
وسركون بولص يصف هذه الوحشة الشعريّة العربيّة في نصوص ديوانه "إذا كنت نائمًا في مركب نوح"، كما في ملاحظاته على القصائد، التي هي بمثابة إيضاح لسيرتها وسيرة الشاعر، تجاه شعريّتها العربية بالذات.
هُوَ لا يذكر الوحشة الشعريّة، بل ما هو أصعب من ذلك، هو يذكر ما يسمّيه إحساسه "بانسداد جميع منافذ الكتابة بالعربيّة، وانعدام أية رغبة لديه أو همّة مناسبة للتواصل مع عالم النشر أو التركيبة الثقافية العربية بأكملها". فقد كان يراها يومذاك، كما يقول، بعين أودن الساخرة عندما قال في قصيدة له: "يتكلمون عن فنّ الملاحة، بينما تغرق السُفُن".
واضحةٌ هي ضربات اليأس الشديدة في هذه الفكرة. إنّها ضربات قاطعة لأواصر الصلة بين الشاعر والشعريّة العربية بجميع عناصرها. وأهم هذه العناصر عنصرُ اللّغة، في ما هي بنية حيّة ترميزيّة معاصرة لأصحابها. هو يعني أنّ العربية سفينة غارقة، فعلامَ الشِّعرُ بها؟ ولمن؟
الشعر أصلًا يكتب لا ليفهم، بل ليتمّ الاندراج فيه، في فوضاه وورشته الأسطورية والسحرية
ومع ذلك، فسركون بولص لم يكتب أشعاره، بعد هذه الملاحظات التي أبداها في آخر ديوانه "إذا كنت نائمًا في مركب نوح"، بأية لغة أخرى سوى العربية.. علمًا بأنّه تنقّل بين أمريكا اللاتينية وأوروبا، وعاش لفترة من الزمان في الولايات المتحدة وألمانيا واليونان.
اقرأ/ي أيضًا: سركون بولص: ما يُحتمل أن يكون
فهو، العراقي الولادة والنشأة، متشرّد حقيقي في أكثر من بلد على الخريطة، ومع ذلك فوطأة منفاه العظيمة التي شعر بها وأبدى حولها ملاحظاته، لم تكن وطأة التنقّل من بلاد لأخرى، بل منفاه في داخل لغته الأمّ العربيّة. وهي وطأة يعاني منها شعراء آخرون عرب، سواء عاشوا في أوطانهم أو خارجها، فإنهم مشرّدون في ثيابهم في الحقيقة، التي هي لغتهم... ويرغبون دائمًا في أن "يعبروا الى الجهة الثانية من الكلام"، بتعبير جلال الدين الرومي، الذي أخذ منه سركون بولص عنوان ديوانه، والذي لم يقرأه بالعربية لمزيد من الغرابة والغربة بل قرأه مترجمًا الى الإنجليزية.
ويظهر بولص في قصائده أشبه ما يكون بتماثيل جياكوميتي النحاسية المتجردة الضارعة، التي تكاد تنفر ضلوعها من صدورها من شدّة الهزال، ويتعالى من صمتها أنين مكتوم مدوٍّ، ولكنه شرس بل استفزازي. والهذيانية المسربلة للنصوص ليست متروكة لعواهنها، بل تظهر مدبّرة، حتى وهي تقطّع أوصال الكلمات مثل تقطيعه لكلمة "إرشادات" في قصيدة "إرشادات في الطريق الى الجمرة"، حيث كتبها كالتالي: "إرشا، في الطريق إلى الجمرة، دات"، أو تستخدم الرسوم والأرقام والخطوط والدوائر، وجميع ذلك وما أشبهه من تقنيات أو حيل تقنية، استخدمها الشاعر "للعبور بالقول الى الجهة الثانية من الكلام"، كما سبقت الإشارة.
لسنا مدعوين، بالطبع، لفهم هذه الكتابة اللايقينية. فالشعر أصلًا يكتب لا ليفهم، بل ليتمّ الاندراج فيه، في فوضاه وورشته الأسطورية والسحرية، فالمعنى دائمًا، كما يقول "يدخّن صابرًا" ومنتظرًا أن يتمّ الوصول إليه، إنما هيهات الوصول... لكننا مدعوون للاندراج في الحال الشعريّة، ولا بدّ من العدوى الشعريّة تصيبنا بها نصوص بولص لنستطيع القول إننا قرأناها. وهذه العدوى شبيهة بالعدوى التي تسرّبت إليه، حين مروره بشاعر "إلْ كامينو رويال" أو الطريق الملوكي، في كاليفورينا، وهو الطريق الذي سلكه الماضي كهنة المكسيك إلى أديرتهم المقدّسة.
حيث فوجئ بحانة على هذا الطريق الملوكي اسمها "حانة الكلب". هذه الصدمة، أو المفارقة، ولدت لديه قصيدة "حانة الكلب"، التي يصف فيها المعنى الأمريكي الجديد المتأرجح، كما يقول، "بين الكلبيّة والقداسة". إنها أمريكا، إذًا، ولكنها في نصوص بولص "أمريكا ضد أمريكا".
الصدمة التي تثيرها فينا نصوص سركون بولص، تصوّر حيرة الذاهب المسافر الذي لا يحل له السفر مشكلة
الصدمة التي تثيرها فينا نصوصه، تصوّر حيرة الذاهب المسافر الذي لا يحل له السفر مشكلة، فهو، كما يقول في قصيدة (الذاهب إلى المكان) ": إما لم تجب على الرسالة/ أو لم تذهب الى أي بلد/ لكنك وصلت الى المكان". فلم تعد الثقافة العربية واللغة العربية، والعرب على العموم، وهي أصول الشاعر، محنته الكبيرة، وحدها، بل أصبح الوضع البشري برمته، ووقائعه كافة، محنته. فما يسيطر على القصائد حقًا هو تلك اللعنة الأمريكية، التي لم تشتّتْ أو تبدّدْ لدى سركون بولص، الشعريّة العربيّة وحدها، بل لم تستطع أن تقنعه بأنها هي البديل، لا من حيث اللغة، ولا من حيث الحال الشعرية، ولا من حيث الحال الثقافية.
اقرأ/ي أيضًا: حديث عادي عن مجموعات أولى
في تعاريج القصائد والنصوص سنجد مناطق اشتباك واسعة المساحة والأدوات، بين الآلية الأمريكية في التقطيع، والرصد العددي باستعمال الأرقام، والصورية الهندسية البصرية في الكتابة، والجمود الآلي، بل القسوة التي هي أمريكية بامتياز في فعل الكتابة وشكلها كما في قصيدة "اللكمة". فليس للنصوص هذه بمجملها أي جفن عاطفي، كما تمكن ملاحظة ما يمكن أن يسمّى برمجة كتابية للنص، وما يقرب من المعادلات الكيميائية والرياضية، بل إلى ما نسميه سَرْد السرْد، وهي تقنيات تطرح في كتابة بولص مسألة "الشعر ضد الشعر"، و"اللغة ضد اللغة"، و"العربيّة ضدّ ذاتها"، وما أشبهها من محاولات التوليد الشعري الجديد. إلا أننا سنجد الى جانبها شيئًا من النبش في الأسطورة، والميثولوجيا، وما يشبه أحيانًا اللغة التوراتية، أو الإحالة الى رُقمِ أور وأساطيرها، وإلى شيء من مناخ عرفاني مشرقي، عُرف خصوصًا لدى جلال الدين الرومي، كما في قصيدة "شرقًا حتى الموت"، وإيماءات من سعدي الشيرازي، والقصائد التي تلي، حيث يتحرك فيها وجدانٌ ما غيرُ يقيني "بين القصبات المحطمة طائر أحمر، يجري أو يحلّق نحو نقطة مجهولة" كما يكتب في قصيدة "مشهد باتجاه واحد".
كلُّ هذا يطرحُ لدينا سؤالًا على شكل قشعريرة، عن نصوص سركون بولص: ما ملمسُها؟ ما لغتُها؟ ما سلالتها في الشعريّة العربية المعاصرة؟ هل نحن حقًا أمام نص شعري عربيّ؟ والأهم كيف؟
اقرأ/ي أيضًا: