قلائل هم الأدباء العرب الذين حظوا بشهرة توفيق الحكيم (1898 ـ 1987)، وقلائل هم الذين أثاروا ما أثار من جدل واسع امتد عقودًا طويلة من تاريخنا الثقافي المعاصر. وللمفارقة فقلائل كذلك هم الذين أحيطوا بمثل ما أحيط هو من التباس وسوء فهم وتأرجح في المواقف إزاء نتاجاته وأفكاره.
مر وقت عُقدت فيه الريادة للحكيم، وفُرض الاعتراف به كواحد من الأساتذة الكبار لكل ما تلا من أجيال أدبية وثقافية، في الرواية والمقال وعلى الأخص في المسرح. ومع صعود الموجة "التقدمية" ظل عدد من "التقدميين" يعترفون بأستاذيته وإن أعلنوا اختلافهم مع أفكاره وتوجهاته الأيديولوجية، بالأحرى "اللا أيديولوجية"، غير أن آخرين منهم نفضوا أيديهم منه ومن إرثه، وقالوا إنهم فرغوا منه تمامًا بعد أن تجاوزه التطور وحركة الواقع، فـ"حبيس البرج العاجي لم يعد قادرًا على مجاراة المستجدات السياسية والاجتماعية وتجلياتها الثقافية، وتحول إلى كاتب محافظ ورجعي، ببساطة لقد صار عنوانًا لزمن مضى وانقضى".. بل إن مجلة يسارية، كانت مرموقة ذات يوم، عنونت خبر رحيله في العام 1987 بالقول: "وأخيرًا حمل عصاه وانصرف"!
قلائل هم الأدباء الذين حظوا بشهرة توفيق الحكيم، وقلائل هم الذين أثاروا ما أثار من جدل واسع امتد عقودًا طويلة من تاريخنا الثقافي. وقلائل كذلك هم الذين أحيطوا بمثل ما أحيط من التباس وسوء فهم وتأرجح في المواقف إزاء نتاجاته وأفكاره
وفيما ظل طه حسين، مثلًا، حاضرًا بقوة ومطروحًا بغزارة كلما طُرحت أسئلة النهضة والتقدم والعقلانية والحداثة (وهي تُطرح على الدوام)، وفيما كان نجيب محفوظ يدخل بخطا ثابتة إلى مجمع الخالدين، لا سيما بعد تتويجه بنوبل للأدب، فإن توفيق الحكيم بدا وكأنه ذاهب إلى مجاهل النسيان، فقد غُلف، بعد سنوات من وفاته، بصمت وتجاهل كثيفين، وإذا ما استعيد فعبر كليشهات هزيلة: "عدو المرأة"، "أديب البرج العاجي"، "كاتب المسرح الذهني العصي على التجسيد"، "صاحب الفلسفة التعادلية الغامضة والمتناقضة"..
ولكن سرعان ما أثبتت الأيام أن الحكيم وإرثه كانا أقوى من النسيان، وأكبر كثيرًا من أي محاولة للتجاهل. والعائدون اليوم إلى كتب الحكيم يكتشفون أن تحت سطح الكليشهات الزائفة ثمة أعماق غنية بأفكار ذكية لا تتقادم وبصياغات فنية أصيلة لا تبلى، وأن وراء صورة الرجل التقليدي المترفع المتشبث بعصاه وطاقيته "البيريه" ثمة حقيقة لكاتب لم يمنعه افتتانه بالفن والفكر المجرد من الانشغال بقضايا عصره ومجتمعه، بل أنه وبسبب هوسه بالفن الخالص وبالفكر كمادة أساسية للكتابة كان الأقدر على التقاط روح عصره وعلى النفاذ إلى جوهر إشكاليات مجتمعه.
يفرض الناقد جورج طرابيشي قيدًا ضيقًا، نوعًا ما، على ريادة توفيق الحكيم، فيقول في كتابه "الأدب من الداخل": "والأدب العربي الحديث، على كثرة وجوهه البارزة، لم يستطع حتى الآن أن يساير ركب الأدب العالمي في الريادة. وعندما نقول عن كاتب عربي ما إنه رائد، فإننا لا نقصد بذلك إلا أنه كان أول من استغل في اللغة العربية فتوحات الآداب العالمية. وبهذا المعنى نقول عن توفيق الحكيم إنه رائد". وضمن هذا التقييد يسارع طرابيشي إلى التأكيد أن "ريادة الحكيم لا تقتصر على مجال واحد، بل هو يكاد يكون الرائد في المجالات كافة". فإضافة إلى ريادته في المسرح بكل تنويعاته، والتخييل العلمي، والأدب الحديث اللا معقول، وما أسماه بـ"المسرواية" (أي المسرحية/الرواية)، فقد "كان الحكيم رائدًا في فن الرواية الحديثة، إذ سجلت عودة الروح ولادة الرواية العربية المستوفية للشروط الفنية الحديثة".
صدرت رواية "عودة الروح" مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، وقد قرئت وقتئذ كما يقرؤها كثيرون اليوم، على أنها محاولة فنية لإحياء الروح الوطنية المصرية التي كانت قد عاشت تيهًا طويلًا، وكانت ثورة 1919 هي الشرارة والمنطلق حيث ترصد الرواية انخراط أسرة صغيرة في مجرياتها. وعلى الرغم من أن الرواية "امتداد تاريخي لجهود الرواية العربية في مصر إلا أنها تحولت.. إلى مستوى كيفي جديد بدأت به الرواية المصرية تاريخها الحقيقي وحياتها الحقيقية"، حسب ما يقول الناقد والمفكر غالي شكري، والذي يؤكد في كتابه "ثورة المعتزل" على "التأثير الضخم لهذه الرواية على مجرى أدبنا الروائي المعاصر"، ملاحظًا: "ولو كانت مجرد عمل عظيم في عصره وكفى، لما استطاعت أن تحفر لنفسها هذا المجرى في أعمال الأدباء المعاصرين وفي مقدمتهم نجيب محفوظ".
بموازاة هذه الريادة الروائية، وبالتزامن معها، كان ثمة ريادة مسرحية تمثلت في مسرحية "أهل الكهف"، والتي تدور حول صراع الإنسان مع الزمن، مستندة إلى الحكاية القرآنية المعروفة، وكان عميد الأدب العربي طه حسين من أبرز الذين تحمسوا لها يومئذ، إذ كتب واصفًا إياها بأنها "حادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي العصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط.. إن بابًا جديدًا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة".
رغم أن الحكيم ظل يكتب في الرواية والقصة والمقالة، إلا أن المسرح صار هو محور اهتمامه، إذ وجد فيه تجسيدًا لميله ورغبته في التكثيف وإقصاء كل الزوائد
ورغم أن الحكيم ظل يكتب في الرواية والقصة والمقالة، إلا أن المسرح صار هو محور اهتمامه، إذ وجد فيه تجسيدًا لميله ورغبته في التكثيف وإقصاء كل الزوائد، والمسرح في مفهومه يقوم أساسًا على التركيز والاقتصاد في الكلام، والمؤلف المسرحي الذي يعمد إلى الحشو والإطالة يغامر بتدمير مسرحيته تمامًا، وذلك على العكس من الرواية التي تحتمل الزخرفة والبهرجة والاستطراد..
من بين العلامات المسرحية البارزة هناك مسرحية "السلطان الحائر"، (صدرت عام 1960)، وهي تفيد في نفي تهمة اللامبالاة السياسية عن كاتبها. هنا نحن أمام سلطان يواجه، فور تسلمه مقاليد الحكم، مشكلة خطيرة تتصل بشرعيته. يغريه وزيره باستخدام القوة الكفيلة بإخراس الألسن وفرض هيبة السلطنة، فيما يصر القاضي على اتباع طريق القانون، الأطول والأكثر مشقة، ولكنه الخليق في النهاية بترسيخ مفهوم العدالة والشرعية والتعاقد السلمي والسليم بين السلطة والمجتمع. ورغم أن توفيق الحكيم ادعى في حوار صحفي أنه يقصد النظام العالمي، المتمثل بالقوى العظمى، والحائر بين القوة والشرعية، غير أن كثيرين فهموا أن هذا الكلام هو نوع من التقية، وأن المسرحية في الحقيقة توجه رسالة جريئة للسلطة الناصرية.
لقد أغضب الحكيم الناصريين وبعض القوميين واليساريين عندما نشر كتابه "عودة الوعي" في العام 1972، وقد اعتبروه انقلابًا على عبد الناصر بعد وفاته، وفي الكتاب تفنيد لشعارات ثورة يوليو و"إنجازاتها المزعومة"، وتعداد لخيباتها ومآزقها من العدوان الثلاثي إلى حرب اليمن إلى هزيمة حزيران / يونيو.. مع تركيز على مسألة الديمقراطية والحريات. ويعتبر الكاتب أن عهد عبد الناصر كان تغييبًا كاملًا للوعي، وهو ما لم يسلم منه هو نفسه: "أثناء ثورة 1919 في شبابي كنت أفكر بعقلي، وأثناء ثورة 1952 في كهولتي كنت أفكر بقلبي".. ويقول: "إني أرجو أن يبرئ التاريخ عبد الناصر لأني أحبه بقلبي، لكني أرجو من التاريخ ألا يبرئ شخصًا مثلي، يحسب في المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله".