يشكّل غسّان كنفاني مع جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي ثالوث الرواية الفلسطينيّة. ويمكن القول بكل ثقة إن كنفاني هو من أكثر الكتّاب اقتباسًا، كما يمكن القول بثقة أكبر إن ذلك لم يجعل ما كتبه مبتذلًا وخارجًا عن السياق، ولم يحول نصوصه إلى مقولاتٍ مفرغة من معناها.
جسّدت أعمال غسان كنفاني التراجيديا الفلسطينيّة، وفتحت آفاقًا كبيرة للاشتباك مع المستعمِر والأنظمة الرجعية
كان كنفاني شهيد الكلمة، وكانت أعماله ولا تزال المحرّضة والملهمة لأجيالٍ وأجيالٍ من الفلسطينيين. هل كان يعرف الذي قال "تسقط الأجساد لا الفكرة" أنه لا هو سقط، ولا حتّى الفكرة؟
جسّدت أعمال كنفاني التراجيديا الفلسطينيّة ففتحت آفاقًا كبيرة للاشتباك المستمر مع المستعمِر والأنظمة الرجعية المتواطئة، والأهم الاشتباك المزمِن مع الذات في سبيل الحريّة. وقد كانت المقاومة والكفاح المسلّح الجواب الواضح والمطلق الذي يعوّل عليه كنفاني لتحرير فلسطين، وفي ذات الوقت، وإن كان ذلك هو الدرس المستخلص بسمة عامة من قصصه ورواياته، وحتّى تلك التي لم يتسنَ له إنجازها جرّاء اغتياله، تفتح أعماله إلى اليوم الباب مشرعًا أمام عددٍ هائلٍ من الدّروس والعبر من خلال مآلات أبطاله وتعاطيهم مع المأساة وأبعادها.
كان الدرس الأوّل في "رجال في الشمس"؛ الحل الفردي مقابل الحلّ الجمعي الوطني، الهروب مقابل المواجهة. إحدى أهمّ مقولات كنفاني في روايته الأولى هو أن تذويت القضية والبحث عن حل فردي في الهروب سعيًا وراء واقعٍ أفضل لن يؤتي أُكلَه. كما أنّ الهروب للأمام لن يغيّر ويحوّر مجرى التاريخ وأحداثه؛ فالحلّ هو المواجهة والاشتباك مع المستعمِر على الأرض. فأبو قيس وأسعد ومروان، الذين يختلفون عمريًّا، قرّروا الهرب عبر الصحراء بحثًا عن المال والاستقرار، وهربًا من الهلاك الذي يحدّق بهم، ليلاقوا حتفهم في خزّان أبي خيزران الذي صاح استغرابًا: لماذا لم يدّقوا جدران الخزان! من المؤكّد أنهم، من حيث المنطق، لم يجلسوا مختنقين في انتظار نهايتهم بل دقّوا جدران خزّانهم مرارًا وتكرارًا، لكنّ أياديهم وتعبها المضني لم يكن بمقدورها أن تهزّ جدار الخزّان وتنفذ عبر صلابته.
نستطيع أن نسحب رمزية القصّة إلى الواقع الفلسطيني اليوم، بعد عقودٍ من السعي وراء الشمس، خصوصًا في ظلّ غياب مشروع وطني جامع يستثمر ويوجّه العمليات التي يقوم بها الفلسطينيّون منذ استشهاد مهنّد الحلبي في تشرين الأول/أكتوبر 2015؛ الهبّة الشعبية تجاوزت حتمًا الطابع الفردي، لكنّها لم تصل إلى الجماعي الشعبي كالّذي كان في الانتفاضتين الأولى والثانية.
حكت شخوص كنفاني في "رجال في الشمس" أنّ الحلّ لن يكون فرديًّا، وقلنا إنّ ذلك كان الدرس الأوّل، أمّا الثاني فقد رواه سعيد س. في "عائد إلى حيفا"، والدرس الثاني هو امتداد للأوّل بطبيعة الحال. قدّمت هذه الرواية الحرب والبندقية كطريقٍ وحيدٍ للعودة والتحرّر، فسعيد الذي عاد إلى حيفا زائرًا لماضيه وباحثًا عن طفله الذي خلّفه وزوجته وراءهم أثناء خروجهم، أيقن أنّ العودة الأخيرة تتطلب حربًا، وأنّ المستوطنين يستطيعون أن يبقوا في بيته وبلده، إلاّ أنّ ذلك لن يكون أبديًا، فالحرب وحدها ستعيد الغائب والأمور إلى نصابها.
كما طرحت الرواية مفهوم الهوية؛ هل تورّث بيولوجيًّا أم يكتسبها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية؟ خلدون، المولود لأبوين فلسطينيّين والّذي تربّى على يديّ مستوطنين بولنديين، أصبح صهيونيًّا يخدم في الجيش الإسرائيلي.
في "عائد إلى حيفا"، وضع كنفاني الحرب كطريق وحيد للتحرّر واستعادة الهوية
ومرّة أخرى، وضع كنفاني الحرب كطريق وحيد للتحرّر واستعادة تلك الهوية. ناهيك عن المفهوم الجديد الّذي قدّمه عن الوطن، بالنسبة لكنفاني نفسه، وعددٍ من شعراء المقاومة -كما أسماهم- وبالنسبة إلى الفلسطينيين أيضًا، تحوّل الوطن إلى مرثية وبكائيّة، فأصبح طللًا يبكون على أعتاب ماضيه القريب البعيد، ولكنّه اكتشف أن الوطن يتجاوز الجغرافيا والبيت وأثاثه والصورة الماديّة التي يحفظها اللّاجئون في ذاكرتهم. فالوطن يتجاوز الماضي ليشكّل المستقبل الذي يحارب الفدائيون لأجله.
وفي القصّة القصيرة "إلى أن نعود" كان الدرس الثالث. القصّة التي تحكي عن فدائي يتسلل لينفّذ عمليات في عمق العدو انتقامًا لأرضه وزوجته، لا يفتأ أن يعود ليضرب العدو بعد كلّ مرّة يعود فيها سالمًا إلى المسؤول الّذي يمدّه بالمتفجرات بالرّغم من إعيائه الشديد. وعندما يسأله المسؤول إلى متى سيظلّ على هذا المنوال يجاوب البطل بكل حسم: إلى أن نعود. هذا الدرس في النفس الثوري والأمل الأعمى بالعودة. أن لا يشعر الشخص بالملل من طول الطريق وصعوبتها، فليس سوى أن يريد.
وضع كنفاني حكاياته بين أيدينا، وترك لنا فنّ التأويل
وضع كنفاني حكاياته بين أيدينا، وترك لنا فنّ التأويل. وقد قال مرّة إن البراعة هي كتابة الشيء المعقّد العميق ببساطة، وهكذا فعل حين حوّل النكبة والمقاومة والمخيم والعودة إلى حكايات مكتوبة وروايات تعيشنا ونعيشها. استطاع غسّان أن يروي حكايتنا ببساطة، وبذات الطريقة دخل إلى وجداننا، لكن الكتابة عنه بحدّ ذاتها صعبة ومحفوفة بالمخاطر لأنّها مليئة بالعواطف ومتحيّزة لسيرته أوّلًا وأخيرًا. هل كان يعرف نفسه أنه هو الرّجل الذي لا يمكن قتله إلاّ من الداخل؛ ولذلك ظلّ خالدًا رغمًا عنهم، وسيظلّ؟