حلت أمس الذكرى السابعة والثمانين لميلاد "والد الشعراء" فؤاد حداد (1928-1985 )، ويعتبر صاحب "الحضرة الزكية" أول الشعراء الذين أحدثوا ثورة في شعر العامية المصرية، بعدما كانت مقتصرة على الزجل الذي يعالج القضايا الاجتماعية فقط، مثل تجربتي بديع خيري وبيرم التونسي. حيث استطاع حداد أن يجعل من العامية قصائد شعرية إنسانية تعتمد على التخييل.
يعدّ فؤاد حداد أول الشعراء الذين أحدثوا ثورة في شعر العامية المصرية
ويعد حداد أكثر الشعراء تأثيرًا على الأجيال الشعرية اللاحقة له، سواء ممن يكتبون شعر العامية أو الفصحى. فهو من أكثر شعراء العامية اطلاعًا على التراث العربي، شعرًا ونثرًا. وقد استخدم البلاغة العربية في قصائده العامية: "املوا علينا الهوا.. املوا علينا عنينا.. نزفنا دم النور.. نزفنا في حبكم دم الخيال.. خلينا كل البلاد والشهور بلد وشهر حرام.. قليل ما قلنا ياريت.. بكيت مسحت دموعي.. بمسح دموعي بكيت".
وانطلاقًا من قناعة حداد منذ طفولته عندما سُئل عن رغبته في أن يصبح شاعرًا: "لأساعد الناس حتى تكون حياتهم أفضل". اختار العامية لتكون لغة البسطاء الذين يعبر عنهم، وجاءت تجربته الشعرية معبرة عن التزامه بقضايا المجتمع المصري، والعربي مثل مناصرته للقضية الفلسطينية في ديوان "الحمل الفلسطيني"، بل والإنساني أيضًا، مثل ملحمة "الشهيد الإيراني" تضامنًا مع حركات المقاومة.
انحدار حداد من عائلة شامية مسيحية (أبوه من لبنان وأمه من أصول سوريا)، ودراسته في المدارس الفرنسية في مصر، واطلاعه على عيون الأدب العربي، وانضمامه أثناء شبابه إلى تنظيم شيوعي، رغم أنه من أسرة أرستقراطية، كل ذلك تسبب في إثراء تجربته من خلال تعدد الروافد المؤثرة عليه. وقد أضاف تحول حداد إلى الإسلام بعدًا جديدًا في تجربته، وفي هذه الإطار، كتب حداد الشيوعي المسلم قصيدة عن الرسول محمد لما وجده في الإسلام والشيوعية -على حد قوله- من إنصاف للفقراء: "يا جموع الفقراء.. يمموا غار حراء.. سيرى هذا التراب.. بعيون لا تراب.. عسجديا مسجديا.. طأطأت فيه الحراب".
انحاز صاحب "كلمة مصر" منذ بداية حياته إلى الفقراء من العمال والفلاحين: "الرأسمالي بيملك الآلة.. أغلال على استغلال على بطالة.. يجعل حياتك يا فقير عالة.. ويموتك ويبعلك الأكفان". وتم اعتقاله للمرة الأولى عام 1953 لمدة ثلاث سنوات، وقد عبر عن هذه التجربة في ديوانه الأول "أحرار وراء القضبان"، ورغم ما تعرض له حداد من اعتقالات في المرحلة الناصرية، إلا أنه آمن مثل أقرانه الشيوعيين آنذاك بالمشاريع التي أنشأها عبد الناصر، وكتب ديوانه "حنبني السد".
شهدت فترة الاعتقال الثانية عام 1959 لمدة خمس سنوات، تحولًا كبيرًا في شعر حداد، تشرَّب خلالها الشخصية المصرية من خلال التقائه في المعتقل بمصريين من محافظات شتى، من الإسكندرية والصعيد والنوبة، لحد قوله: "والشكر للي سجنوني، وبنيل وطمي وعجنوني"، وقد انتقل شعره خلال هذه المرحلة من السياسي المباشر إلى تجربته الرمزية في ديوان "رقص ومغنى" الذي أنطق فيه الحيوانات، مثل قصيدة "رقصة الدب".
فؤاد حداد: أنا مصري من أصل شامي.. لكني لم أُستورد ولا أُباع إلا بالعملة المحلية
التركيبة التي تكون منها حداد: "أنا مصري من أصل شامي.. لكني لم أُستورد ولا أُباع إلا بالعملة المحلية" جعلته يشعر طوال الوقت بعروبته. يحلم لأمته العربية، ويبكي لها. وهو من أكثر الشعراء الذين دافعوا عن قضية فلسطين، كما في ديوانه "النقش باللاسلكي" الذي كتبه عن مجزرتي صبرا وشاتيلا. وفي مجموعته الأشهر "المسحراتي" استخدم حداد شخصية المسحراتي الرمضانية، الذي يوقظ الناس للسحور في إيقاظ الهمم والضمائر في الوطن العربي والتحذير مما يتعرض له من مخاطر خارجية: "الرِّجل تدب مطرح ما تحب.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال.. حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال.. وكل شبر وحتة من بلدي.. حتَّة من كبدي.. حتَّة من موال.. لما تقول أجمل ما في الدنيا الميّة للعطشان يعرفوك عربي.. أما للراوي ريحة البرتقان في مداخل يافا يعرفوك عربي.. لما تقول ابني اتولد لاجئ يعرفوك عربي".
وفي الوقت الذي تسببت فيه هزيمة 67 في اكتئاب رفيقه الشاعر صلاح جاهين، كان حداد يكتب بحماس مستمر، إيمانا منه بضرورة استمرار المقاومة، مستلهما التراث العربي والإسلامي، وكتب ديوان "من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة" كرد فعل للنكسة، كما كتب قصيدته الأشهر "الأرض بتتكلم عربي"، وما بين هزيمة 67 وحرب 73 كتب حداد العديد من الأغاني الوطنية، مثل "ازرع كل الأرض مقاومة".
يعتبر حداد على مستوى الإنتاج الشعري هو الأكثر غزارة مقارنة بأقرانه الشعراء، حيث كتب 33 ديوانًا، إلى جانب الأغاني والمواويل المصرية وأشعار الأطفال، بالإضافة إلى الملاحم الشعبية، أبرزها "أدهم الشرقاوي"، وبعض دواوين بالفصحى، كما قام بترجمة عدة أعمال مثل مجموعة قصائد لشعراء المقاومة الفيتنامية، ومسرحية "الغول" لبيتر فايس، ورواية "الأمير الصغير" لأنطوان دي سان- أكزوبيري التي حولها إلى مسرحية غنائية بالعامية.
ورغم عدم التفات المؤسسة الثقافية في مصر، سواء الرسمية أو المستقلة، لذكرى رحيل الشاعر "فؤاد حداد"، إلا أنه سيظل حيًا في قلوب المصريين والعرب، الذين يرددون قصائده وأغانيه، مثلما كان يحلم: "أنا الأديب وأبو الأدبا/ اسمي بإذن الله خالد/ وشِعري مفرود الرقبة/ زي الألف ورقم واحد/ والساعة 6 في العتبة".
اقرأ/ي أيضًا: