تضمن خطاب بوتين الأخير ملامح استراتيجية واضحة أكثر من ذي قبل، متبنيًا فلسفة المفكر الروسي الكسندر دوغين بصورة جلية وواضحة، لا سيما نظريته السياسية الرابعة التي تعتبر بديلًا عن المرحلة التي تلي الليبرالية، ولا تشكل أي استمرار للنظرية الثانية التي تتجلى بالشيوعية، والثالثة التي تتمثل بالفاشية. النظرية الرابعة هي العمق الأيديولوجي الجوهري لمواجهة ما بعد الحداثة وإفرازات المجتمع ما بعد الصناعي.
تتمحور النظرية الرابعة حول أهمية الوجود والتفسير المرتبط بالكينونة عبر فهم عميق للتقليد ونبذ ما بعد الحداثة، وكبديل حتمي للعلل التي يعاني منها العالم جراء اعتناق الديمقراطية الليبرالية
تعتبر النظرية الرابعة الضد والنقيض لتحقق الفكر الليبرالي وإفرازاته، لا سيما العولمة وقواعدها التكنولوجية واللوجستية، هذه النظرية تتمحور حول أهمية الوجود والتفسير المرتبط بالكينونة عبر فهم عميق للتقليد ونبذ ما بعد الحداثة، وكبديل حتمي للعلل التي يعاني منها العالم جراء اعتناق الديمقراطية الليبرالية، وإنهاء وتصفية الاستعمار من قبل روسيا، والدفاع عن أصالة المجتمع الروسي وحضارته بطريقة مغايرة للقيم الغربية عبر الاستشهاد بتجارب فشلها "الديمقراطية الغربية" لا سيما في الصين والعالم الإسلامي وروسيا وبقاع أخرى من العالم.
وترتكز النظرية الرابعة التي يُنَظِّر لها دوغين الى مبادئ أساسية أهمها: تصفية الاستعمار وتصفيره، كون النظريات لا سيما الليبرالية والقومية والاشتراكية غربية المنشأ وفرضت بالقوة والهيمنة على بقية العالم، عبر تصدير أمريكا لثقافتها ما بات يشكل "عدوانًا ثقافيًا" على الثقافات المضادة لها ومن الأمثلة الواضحة على الصدام الثقافي والقيمي كان تجاه "ليبيا، افغانستان، العراق...."، فيما قبلت دول أخرى بتغلغل الثقافة الأمريكية وسلمت بالأمر الواقع وخضعت للهيمنة الأمريكية، وهذا فرض على روسيا حتمية تصفير الاستعمار وضرورة تخليص المجتمع الروسي من الميول إلى الثقاقية الغربية الأمريكية.
كما تركز النظرية الرابعة على محاربة الليبرالية الرأسمالية ومناهضتها كونها أداة استخدمت لفرض هيمنة الغرب على العالم بأسره وغير مقبولة من قبل أطراف دولية عدة، منها الصين وروسيا وغيرهما، وأنه من حق الشعوب والدول أن تجد طريقتها التي تناسب كيفية انمائها وتطورها، دون الضرورة الى حتمية المواجهة التصادمية، ومن يجد خلاصه في الليبرالية فله ذلك على أن يهاجر إليها لا أن يتم فرضها على المجتمع بأكمله، ومن يرفضها فهذا حقه.
وتشمل أيضًا رفض تعميم القيم الغربية وشموليتها، والتركيز على أصالة الحضارة الروسية وقيمها الفلسفية والسياسية، فيرى دوغين الليبرالية ترتكز على الفرد بعيدًا عن محيطه الاجتماعي، ويقول إن الليبرالية تقوم على تحرير الفرد، وسلخه عن هويته الجماعية، بالإضافة الى أن الليبرالية الجديدة باتت تفرض خيارتها على الفرد، وأن من يعارضها يعتبر عدوًّا، وهذا ما بات يحولها إلى نظرية دكتاتورية. وأن لكل حضارة معتقداتها وقيمها ومفاهيمها التي من الصعب التخلص منها وتغييرها لإرضاء الغرب.
الدعوة الى بناء نظام دولي قائم على التعددية القطبية بكل معانيها "الجيوسياسية، الاقتصادية، الاكسيولوجية، الثقافية"، أحد مكونات النظرية الرابعة، حيث يرفض دوغين النظام الدولي أحادي القطبية، مناديًا بأهمية وجود تعددية قطبية وأن يستند النظام الدولي على أكثر من مركز بما يشمل وجود مجموعات قيمية مختلفة في بنية وهكيلية النظام الدولي الجديد، مشددًا على أن النظرية السياسية الرابعة يجب أن تكون ذات منفعة وفائدة للدول والمجتمعات التي تنادي بها.
وبالعودة الى خطاب بوتين فقد تضمن رؤية سياسية ارتكزت بكل وضوح على أسس النظرية السياسية الرابعة، فقد انتقد الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية "الاستعمارية" كونها تسعى لتحقيق مكاسبها السياسية ولا تكترث إلى حال الدول التي استعمرتها ولا المآلات التي آلت اليها شعوبها. وأن الغرب ما زال يسعى لتقسيم روسيا، كما يسعى بكل جهده على الحفاظ على منظومته الاستعمارية، وفرض الإملاءات الاقتصادية عبر استخدام الدولار، ولذلك يستمر الغرب في التعدي على سيادة الدول، حسب ما يرى بويتن الذي يعتبر أن الغرب يمارس حربًا هجينة ضد روسيا ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
رؤية بوتين تتبلور حول أسس ومرتكزات جيوسياسية، تعمل على ضمان دور مستقبلي للأوروسية في بنية النظام الدولي الجديد. وتبرهن أن روسيا ليست دولة عادية يمكن تقسيمها أو استغلالها
وتطرق خطاب بوتين إلى القيم الغربية وانعكاساتها السلبية على المجتمعات لا سيما روسيا، واستخدام الدولار كعملة عالمية مفروضة على الدول والشعوب كنتيجة للهيمنة وإفرازات العولمة. كما تطرق إلى أهمية الدين "الأرثوذكسية" في الحفاظ على روسيا متماسكة في حقبتها الجديدة، بالإضافة إلى الدين الإسلامي وأهميته كمكون في بنية المجتمعات المنضوية تحت الإطار الروسي. وتحدث عن تمجيد الحضارة الروسية "الأوروسية" واصفًا المعارك التي تخوضها روسيا اليوم من أجل روسيا التاريخية العظمى. وعبر عن الاعتزاز بأمجاد روسيا القيصرية، والتركيز على المصير المشترك للأقاليم الأربعة التي ضمها بعد استفتاء شعبي إلى روسيا الاتحادية.
وعبر بوتين عن رؤيته الى القطبية الدولية التي باتت تتعزز عبر تطور الدول على أساس ثقافتها وقيمها وتطور الحركات التحريرية داخلها، وترك الاستبدادية التي اعتبرها جزءًا من مخلفات الماضي، والدفاع عن روسيا اليوم ومستقبلها، والحفاظ على ثقافتها وعدم السماح بشطب الثقافة الروسية من قبل الغرب. كما وصف المرحلة الحالية بالجذرية وهذا ما يتحدث به دوغين كبديل لمستقبل ما بعد "الليبرالية".
رؤية بوتين تتبلور حول أسس ومرتكزات جيوسياسية، تعمل على ضمان دور مستقبلي للأوروسية في بنية النظام الدولي الجديد. ويبرهن للعالم أن روسيا ليست دولة عادية يمكن تقسيمها أو استغلالها من قبل الغرب، وأنها ند حقيقي له، وأن الحضارة الغربية ليست نموذجًا مقبولًا عند روسيا. وعند مقارنة المبادئ الأساسية للنظرية السياسية الرابعة مع محاور خطاب بوتين نجد تطابقًا كبيرًا وملفتًا وواضحًا. وهذا يقود الى إعادة طرح التساؤل من قبل وسائل الإعلام والسياسيين والقادة والمفكرين حول ماهية العلاقة التي تربط بوتين مع دوغين، الذي رفض الإجابات على أسئلة وُجهت إليه فيما إذا كان هو من يكتب الخطابات السياسية للرئيس بوتين، قبل أن يتم تفجير سيارته ما أدى إلى مقتل ابنته.