من نافل القول إن اللوحة أو العمل الفني ينحدر ويتحرك ضمن دائرة أساسها وركيزتها البصر، وأنها تتأثر بمحيطها الذي يسعى الفنان إلى مواكبة تحولاته لا بوصفه مؤرخًا، وإنما مقيمًا دائمًا، ومغتربًا، في محيطه.
لا يخفي الفنان موقفه من الحرب ولا من الفن ذاته، بل يحدده ويرسم له قالبًا يتحرك داخله ومن خلاله. الفنان عكس الروائي الذي يبتكر شخصيات ليلبسها كلامه وعوالمه وينفرد بتحريك دُمى رواياته كما يشاء. الفنان، في هذا السياق، يسير في اتجاه معاكس، ويعلن من بداية اللعبة مصيره ومآل أعماله وبواعث حركاته في كل شاردة وواردة. ولعل مقولة بيكاسو مثالًا على ذلك: "ليس لتزيين الشقق، إنه أداة هجومية ودفاعية للحرب ضد العدو".
في إطار الحديث عن الحرب، يمكن القول إنه يصعب تحديد لحظة زمنية واعتبارها شرارة انطلاق هذه الثيمة في المشهد الفني اللبناني، بسبب تعدد وتشعب التجارب، المختلفة زمنيًا ومدرسيًا، التي ساهمت في إدخال هذه الثيمة إلى المحترف اللبناني بطرق وأدوات مختلفة.
أول ما يخطر في البال هنا هو لوحة عارف الريس، أو أحد جوانبها، التي حملت همًا سياسيًا وذاكرة سياسية واجتماعية. أعمال فيها جانب من العنف، وهي مستوحاة من حرب الاستقلال الجزائرية، ونضالات العالم الثالث، وكفاح الأمريكيين الأفارقة، من بينها لوحة أفردها لمقتل مارتن لوثر كينغ، وأخرى يظهر فيها تشي غيفارا، دون أن ينسى حروب العرب والكيان الصهيوني.
ثمة تجارب فنية لبنانية أخذت الحرب إلى مكانٍ آخر، وفضلت أن تبقى في الذاكرة لصالح رسم وتجسيد المناظر الطبيعية والضيع والدساكر بعيدًا عن تشوهات الحرب
يمكن أن نضيف إلى ما سبق عدة لوحات تجسد الحرب الأهلية اللبنانية، التي أخدت لدى الريس شكلًا مختلفًا قوامه تصاميم وكولاجات ذات ثيمة نقدية سياسية تطال أمراء الحرب وصولًا إلى متابعات في عناوين الأخبار والجرائد، وبحوث أخرى في رموز وأشكال سياسية عربية.
نذكر في هذا السياق أيضًا بعض أعمال تغريد درغوث التي جسّدت من خلالها سخطها ونقمتها على موضوعين يتعلقان بالحرب. الأول هو الانفجارات والسيارات المفخخة التي استباحت بيروت مطلع عام 2010، وحولتها إلى أشكال وتضاريس تشبه إلى حد ما سطح القمر. والثاني هو العدوان الإسرائيلي المستمر على الأراضي الفلسطينية واقتلاعه أشجار الزيتون.
يمكننا أن نضيف أيضًا أعمال أيمن بعلبكي التي حولت آثار المعركة إلى منجز فني، حيث جسّد بعلبكي المدينة بتناقضاتها، وأشار إلى ذلك الانفصام والانقسام في أحوال هذه المدينة وأهلها. ثيمة الحرب لدى بعلبكي تأتي كخلفية للأعمال، كداعم أساسي وفاعل مقرر في صناعة اللوحة أو التجهيز، تُسهم بشكل أو بآخر في تحويل هذه المدينة إلى مكان أيقوني منشود.
هبة كلاش استعرضت بدورها ثيمة الحرب بطريقة مواربة من خلال إعادة رسم خرائط هذه المدينة، بعد تحولها إلى بنيان وعمران محض.
ثمة تجارب أخذت الحرب إلى مكانٍ آخر، وفضلت أن تبقى في الذاكرة لصالح رسم وتجسيد المناظر الطبيعية والضيع والدساكر بعيدًا عن تشوهات الحرب. نذكر هنا تجربة رفيق شرف التي تحضر الحرب عنده من خلال الحدائق والسياج الشائك والطيور السوداء في أعالي السماء وعوالم أخرى نقل من خلالها، وبطريقة غير مباشرة، هذه الثيمة وحمّلها رسائل وأبعاد موازية للقذائف ومهاترات الحرب اللبنانية. بول غيراغوسيان حمّل بدوره ألوانه ولوحته ذلك القلق والهجرة الدائمة بوصفها وجهًا من وجوه الحرب.
في المقابل، لا نجد ثيمة الحرب لدى فنان لبناني معروف مثل حسين ماضي، وهذا محط سؤال ونظر. كما أننا لم نبصر في معارض غادة جمال، منذ 1990 حتى اليوم، أي حضور للحرب، علمًا أنها هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الحرب. لكنها، مع ذلك، بقيت محافظة على لوحتها باستثناء مجموعة صغيرة مشغولة بالأبيض والأسود القاتم الفحمي عرضتها مؤخرًا في بيروت، وأكدت من خلالها أنّ الحرب حاضرة وموجودة ولو تحت الرماد العميم.
يستضيف "ألترا صوت" في هذه المقالة ثلاثة فنانين تشكيليين لبنانيين فاعلين في المشهد الفني اللبناني للحديث عن الحرب التي عايشوها، وأرخت بظلالها على أعمال كل واحدٍ منهم حسب تجربته وزاوية رؤيته للعمل الفني.
منصور الهبر: لوحة الحرب غريزة للبقاء
الحرب شيء مظلم ومعتم، لا أحد يريدها سوى السلطة البشعة، ولا توجد حروب مبررة. تسألني ماذا تعني لي الحرب؟ أريد أن أجيب: الشيطان عمومًا تعبير مجازي هلامي غير ملموس، لكن الحرب بطريقةٍ ما هي أبرز وجوهه، ذلك أننا نراه متجسدًا على شاكلة الحرب بصورة حسية.
في الحرب لا أرسم بل أتفاعل مع وجهها المظلم، وأقرأ أيضًا. أرسم سكيتشات وبعد هدوء المدفع أنطلق. تعطيني الحرب دافعًا قويًا للتعبير عن غضبي وسخطي والقيام بهجمة فنية محملًا بكل هذا البؤس واليأس.
الحرب من شأنها أن تغير أسلوب اشتغالي في اللوحة، فأتوقف مثلًا عن استعمال الريشة، وأستعيض عنها بألوان داكنة وبالقهوة أحيانًا وبالتلزيق والتمزيق أيضًا. هو شيء مغاير وفظّ، لكنه إن دل على شيء فيدل على قدرة التأثير والإنجرار نحو المحيط وما يتضمنه.
ما يلفتني أن الناحية المظلمة، في الحرب وفي كل شيء سوداوي، تعطي دافعًا للرسم وللإبداع والإنتاج، وتجعل من محاربة الموت والبقاء إحدى مهامي. وغريزة البقاء من خلال لوحة هي التي تنتصر.
فادي الشمعة: أنا دومًا مع الضحايا
قد أكون مخاتلًا لو قلت إنني لم أخرج من الحرب أو لم أتأثر بها. الحرب هي جزء من الحياة عمومًا، وبالتّالي من حياتي. من لم يعش الحرب؟ من يستطيع القول والجزم أنه سيقفل باب حياته دون أن ترى عيونه حربًا؟ ما يهمني بالتحديد هو الصدق، أن أرسم ما أحس.
الصدق يوازي الريشة واللون عندي، وهو يدي الثانية وعيني التي أرى بها. لا أبجل ولا أبخر ولا أقدم أضحية على مذبح أحد. كلنا ضحايا، وأنا دومًا مع الضحايا، مع الفئة المسحوقة دائمًا. الناظر بتمعّن إلى شخوصي وتدبيجاتي اليومية، سواء على شكل لوحة أو تصميم أو ما شاكل، سيعرف أنني ابن الحرب.
تسألني كيف رسمت؟ قد تكون هذه القساوة في لوحتي شيئًا لا إراديًا يحرك مركبات اللوحة ويدفعها لتكون هكذا. لا أحد يعلم. ما أعلمه أنني حاقد وناقم وغاضب.
كنت أتنقل بين رسم الوجوه والبورتريهات لأنني كنت ضائعًا أبحث عن نفسي. أبحث عن ذاتي وعن إجابات للأسئلة التي خلفتها الحرب فينا حتى لو لم ندرك ذلك. كيف يمكن أن أرسم؟ هذا بالتحديد هو سؤالي الدائم والمستمر.
آني كركجيان: أسعى لخلق عالم موازٍ
المفارقة أنني ولدت في فترة الحرب الأهلية في لبنان، وعشت طفولتي كلها تحت القصف متنقلةً من مكانٍ إلى آخر، لذا لا يبدو مستغربًا أن يكون للفن الذي أقدمه علاقة حميمية جدًا بالعنف والمعاناة اليومية خلال تلك الفترة، كان فيها الورق والأقلام الملونة وسيلتي لخلق عالم موازٍ، ولعلاج إحباطاتي اليومية التي كنت أعاني منها.
الحرب ألغت النزهات بسبب القنابل والقصف، فسعيت جاهدةً إلى رسمها. وشيئًا فشيئًا أصبحت هذه المساحة البيضاء ملجئي ومكاني الأليف الذي يصلح للعيش. لقد طورته شيئًا فشيئًا ليكون ملاذًا آمنًا حين لم يكن لدي خيارًا سوى أن أسكن في الفن.
الفن اليوم هو بيتي وعائلتي، وأرحب بكل من فقدوا مساحاتهم ومنازلهم ليكونوا بقربي وعلى تماس معي، وأتمنى أن يجدوا أنفسهم وأوجاعهم في لوحاتي. همي اليومي هو توسيع رقعتي الفنية قدر الإمكان لاستيعاب الكون بأسره، فما يبدو لي أن الكون كله يتيم ومشرد.