حينما كتب جورج أورويل روايته المعروفة جدًا بـ"1984"، التي يرصد كما يقول أحوال عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لينوّه إلى أخطار السلطة المطلقة، منطلقًا من تجربته الشخصية حين كان يساريًا وشاهدًا على صعود الستالينية التي رأى فيها انحرافًا وانكسارًا للثورة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي.
تغوص رواية "أورويل في الضاحية الجنوبية" في قاع المجتمع الذي يحكمه "حزب الله"
توغل جورج أورويل في عالم خيالي، تسوح فيه أقلية مجنونة مسيطرة على أنماط العلاقات الاجتماعية والإنسانية، من خلال سيطرتها على المعرفة والخيال والرمز، خالقة لنفسها في الوقت ذاته لغة خاصة بها، يقول: "أولئك الذين يملكون لغة لديهم السلطة لأنهم يتحكمون بمعنى كل شيء من حولهم".
اقرأ/ي أيضًا: الحرب الأهلية اللبنانية في خمس روايات
ليترك لنا بعد ذلك صورة قاتمة نهائية هي إن كنت تريد صورة المستقبل فتصور حذاء يدوس وجهًا بشريًا إلى الأبد. هذه المقولة هي منطلق الكاتب اللبناني فوزي ذبيان في روايته الجديدة "أورويل في الضاحية الجنوبية" (دار الآداب، 2017)، التي ترصد عالمًا مليئًا بالتناقضات والاختلاف، من خلال شخصية لا نعرف اسمها في بداية العمل الروائي، في إشارة من الكاتب إلى أن ذلك الفتى يتماهى مع الكثيرين في الضاحية الجنوبية لبيروت، فهؤلاء الذين لا نعرف أسماءهم لكننا نعرف ظروف حياتهم، خصوصًا بعد حرب تموز/يوليو 2006.
تلك البيئة المحكومة بالفقر والعوز والبحث الدائم عن عمل، هي البيئة التي تنتمي إليها نماذج مختلفة من المرأة يسردها فوزي ذبيان على أنها بالأغلب زوجة شهيد أو أمه، أو إحدى المصابات في الحرب، ما جعلها تفقد الحركة نتيجة بتر القدم وتشوه جزء من الوجه مثل أم حمودي.
وهناك النموذج الحالم الرومانسي المتمثل بشقيقة حمودي آلاء، التي تكتب الشعر. إلا أن الموت يغيبها عن المشهد بعد إصابتها بمرض السرطان.
وهناك الفتاة ذات القدرات العقلية والنطقية المحددة؛ بتول، جارة حمودي، التي تموت نتيجة خطأ إطلاق النار فرحًا بخطاب يوم القدس، ليعبّر أحدهم أنها محظوظة بالموت بهذا اليوم العظيم، وكأن لا قيمة للإنسان أمام خطاب الانتصار والتحرير. هذه النماذج الصامتة التي ترتدي ثوب الحداد، التي لا نسمع لها ضجيجًا أو حركة سوى صوت النحيب على فقدان أحد أو موته. في مقابل ذلك هناك نماذج ذكوريّة عالية، فاحشة القوة، صاحبة كلمات بذيئة، تحتكر لنفسها كل شيء.
هذه النماذج البشرية تعيش في بوتقة أيدلوجية -عقائدية تحت سيطرة "حزب الله" على الضاحية الجنوبية في بيروت. يصف الكاتب فوزي ذبيان على لسان بطله حمودي قائلًا: "بالإضافة إلى الصورة الضخمة لسماحة السيد، الممتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبنية المتاخمة لمبنى حمودي، شدت نظره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء. فهو حفظ تقاسيم هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكثر من وجهه هو، حتى أنه لطالما شاهد أصحاب هذه الوجوه في مناماته". لكن المفارقة أن هذه الأيدلوجيا وصورة السيد وأسماء الشهداء... لم تمنع حمودي وآخرين من ارتكاب المحرمات كشرب الحشيش والحبوب المهلوسة والكحول، والتحدث عن الجنس أو مشاهدته.
عند قراءة رواية "أورويل في الضاحية الجنوبية" تشعر أنك تشاهد فيلمًا واقعيًا
يقتحم فوزي ذبيان الضاحية الجنوبية من خلال حمودي، الفتى البسيط الحالم الذي يعيش على ذكريات أخته آلاء، الشاعرة، منتقيًا لرنة هاتفه أغنية فيروز "طيري يا طيارة طيري.. يا ورق وخيطان". تلك الأغنية التي طالما أحبتها آلاء.
اقرأ/ي أيضًا: ربيع جابر.. الفتنة البيروتية
حمودي اليتم فقد عمله في بيع المياه في الحي، بعد أن قضى ليلة في غرفة الدواليب كعقوبة له على شرب البيرة، غير الحلال، من قبل لجنة مسؤولة عن انضباط الحي، ليصبح بين ليلة وضحاها باحثًا عن عمل يعيل أمه المقعدة، بعد إصابتها في حرب تموز/يوليو. ليجد بعد ذلك، وعن طريق معارفه، عملًا في مقهى أركيلة مشهور في الضاحية الجنوبية.
ينتقل حمودي مع عمله الجديد إلى عالم ملي٫ بالتناقضات، فيه الأشخاص يتبادلون في ما بينهم الألقاب أكثر من الأسماء كالشحرور والصندل وحسن النووي.. ليتماهى حمودي مع أصدقائه الجدد وممارساتهم، ويغير نغمة تليفونه من فيروز إلى "لبيك يا نصر الله"، في رمزية بليغة، تمثل الانتقال إلى عالم أشد ذكوريّة، المقاومة شعاره، متجاوزًا الألم والذكريات، غارقًا في واقع الحياة الجديدة في الضاحية.
عند قراءة رواية "أورويل في الضاحية الجنوبية" لفوزي ذبيان تشعر أنك تشاهد فيلمًا واقعيًا، فيه الشخصيات تعبر عن ذاتها بلغتها المحلية المحكية التي تتخللها بعض الكلمات الإنجليزية. إنه فيلم سينمائي مشاهد ولقاءات عن شخصيات تنتمي إلى قاع المجتمع، تائهة وبعيدة عن التصالح مع ذاتها ومحيطها.
اقرأ/ي أيضًا: