يحكي فيلم "Fever Dream" قصة امرأة تدعى أماندا جاءت إلى الريف لقضاء عطلة مع ابنتها بانتظار زوجها ماركو كي يلحق بهما. في القرية تصادف أماندا امرأة أخرى تدعى كارولا وتعيش في القرية مع ابنها وزوجها. تنشأ علاقة صداقة بين المرأتين، أماندا وكارولا، وتنظر كل منهما بفضول إلى العلاقة الأمومية التي تربطهما مع طفليهما. أماندا مع ابنتها وكارولا مع ابنها، سيما وأن العلاقتان تتسمان بمفارقة كبيرة وحادة ومتعارضة. أماندا العاشقة لابنتها نينا، وكارولا الكارهة لابنها ديفيد، مع كل ما تحمله هاتان العلاقتان من مظاهر نفسية وروحية ومشاعر مختلفة كالحب والألم والكره وسلوكيات متنوعة كالنبذ والاهتمام الكبير بين كل أم على حدة مع طفلها أو طفلتها.
تدور حبكة فيلم "Fever Dream" حول زعم كارولا بأن ديفيد ليس ابنها، وتشير إلى أن روحه هاجرت إلى مكان أخر وتركت الجسد وراءها وتزعم أن ذلك حصل بعد تعرض ابنها للتسسم إبان طفولته ما جعله يتغير كليًا
تدور حبكة الفيلم حول زعم كارولا بأن ديفيد ليس ابنها، وتشير إلى أن روحه هاجرت إلى مكان أخر وتركت الجسد وراءها وتزعم أن ذلك حصل بعد تعرض ابنها للتسسم إبان طفولته ما جعله يتغير كليًا.
مدة الفيلم 93 دقيقة، فيلم دراما نفسية باللغة الإسبانية صدر عام 2021 ومقتبس عن رواية للكاتبة الأرجنتينية سامانثا شويبلين صادرة عام 2014. أعدت السيناريو كلوديا يوسا بمشاركة مؤلفة الرواية، ومن إخراج كلوديا يوسا، ومن تمثيل ماريا فالفيردي ودولوريس فونزي وجولين أنديرسون (صوت).
بين الوهم والحقيقة!
فيلم يحمل الكثير من الغرابة والغموض ويفتح أبواب للأسئلة والاستفسارات على شاكلة: ما الذي يحدث ولماذا يحدث؟ وهل هذا المشهد أو ذاك حقيقي أم أنه من نسج تخيلات البطلة وتوهماتها؟
فيلم يضيع فيه الفارق بين الحقيقي والخيالي، بين الواقعي والسحري، بين الحلم والحقيقة، بين الممكن واللاممكن، خصوصًا في تلك الحوارات الصوتية التي تدور داخل ذهن أماندا، وهي حوارات تضمها إلى ابنتها وإلى ابن جارتها ديفيد، لكن دون أن نفهم المغزى والمعنى الحقيقي لهذه الحوارات والغاية منها. الفيلم يشق طريقه وسط هذه الثنائيات السابقة فلا يتخذ طريقًا واضحة لجهة كونه حلمًا صافيًا أم حقيقة خالصة! وبحسب ما تعبر مؤلفة الرواية سامانثا شويبلين فإن "هذا الأسلوب الكتابي يتميز به كتاب أمريكا اللاتينية، حيث هناك دومًا تفاصيل غرائبية وغير معتادة تستدعي المجهول واللاواعي". تكمن الجمالية، برأيها، في الدمج بين الحقيقي والواقعي مع الخيالي والسحري مما ينتج عنه قصة استثنائية.
الحلم عبارة عن سلسلة من الأفكار والصور والأحاسيس التي تراود الشخص أثناء النوم. وغالبًا ما يتسم الحلم الناتج عن الحمى بأنه شديد عاطفيًا أو مزعجًا أو غريبًا أو مخيفًا. وقد تؤدي الحمى أيضًا إلى هلوسة ورؤية أشياء ليست موجودة بالفعل، وكذلك من سمات الحلم الناتج عن الحمى تزايد التهيج العاطفي والارتباك. وبداية من عنوان الفيلم "حلم الحمى" الذي غالبًا ما أصبح يشير إلى تلك الحالة الغريبة والسريالية والضبابية والمليئة بالخدع والأوهام، ذلك أن الحلم ناتج عن مرض أدى إلى هلوسات وهذيانات متقطعة وغير متصلة في سياق واضح، بل أكثر ما يكون سياق مبعثر يشبه الكوابيس غير المكتملة أو واضحة المعالم.
والدتان وطفلان وعلاقتان متعاكستان
الفيلم يبتعد كثيرًا عن كونه فيلمًا محصورًا بقصة، أو بحكاية ذات سياق واضح وتراتبية زمنية ومكانية. قصته ليست سوى قالب لسرد هوامات وهواجس تصيب الأمهات، ومصدر هذه الهوامات والهواجس أطفالهن، وما يرافق ذلك من علاقات أمومية مع هؤلاء الأطفال، وما يترتب عن هذه العلاقات من مشاعر وأفكار مختلفة ومتنوعة وحادة ومتعارضة ومتشعبة. مفارقات عدة تصورها يوسا في حكايتها: زائرون أغنياء مقابل سكان محليين فقراء، أمهات مهووسات بماية أطفالهن مقابل أمهات مهملات غير مكترثات. تفكير رجعي، فبدلًا من البحث عن سبب التلوث في المياه والتي تؤدي إلى التسمم، تذهب كارولا إلى مداواة طفلها بالسحر والشعوذة، بينما يسود التفكير العلمي لدى أماندا عبر فهمها لحالة ديفيد والتعامل معه والنجاح في التواصل معه.
أماندا وكارولا تمثلان طريقتين لفهم الأمومة، أو لفهم علاقة الأم بالعالم ولفهم علاقة الإنسان بالطبيعة الأم أيضًا. كذلك احتمال في أن تكون كارولا بمثابة الوجه الآخر لأماندا، لكن في الحالة التي تكون فيها أماندا مصابة بالحمى، وبذلك تمثل كارولا مخاوف أماندا وأوهامها على حد سواء. وكذلك، تصور يوسا تعقيد العالم الأنثوي والأمومة، وصعوبة إقامة التوازن بين منح الطفل الحرية لبناء شخصيته وبين السعي الدائم لحمايته، وما يرافق ذلك من مخاوف. يبقى التذكير أن يوسا صنعت هذا الفيلم بعد إنجابها لطفلها الثاني. إنه فيلم يحمل في طياته الكثير من الذاتية والتطريز الأنثوي الممتلئ بعالم الأمومة.
تعبر أماندا عن شعورها الأمومي ناحية ابنتها بالقول "هناك خيط لامرئي يربطني بابنتي، وأقضي نصف وقتي في احتساب تلك المسافة بيني وبينها، تلك المسافة التي تتطلب مني وقتًا محددًا للوصول إليها، ولكني دومًا أتخذ إحتياطات أكبر". تتماهى هذه الجملة مع عنوان كتاب شويبلين "مسافة الإنقاذ" (The Rescue Distance)، وهي المسافة التي لا يمكن أن تكبر وتفسح المجال لخسارة الإبنة، ولذلك تبقي أماندا عينها مفتوحة على ابنتها نينا لحمايتها وتحسبًا ومنعًا لحصول أي مكروه. فالحب يجعل بعض الأمهات يفكرن بحصول الأسوأ دومًا. الحب يولد القلق. وربما يكون تفكير الأمهات بحصول الأسوأ نوعًا من التجهز لحصول الأسوأ في حال تم حصوله. إنه تفكير بمثابة حماية لهن.
يبتعد فيلم "Fever Dream" كثيرًا عن كونه فيلمًا محصورًا بقصة، أو بحكاية ذات سياق واضح وتراتبية زمنية ومكانية. قصته ليست سوى قالب لسرد هوامات وهواجس تصيب الأمهات، ومصدر هذه الهوامات والهواجس أطفالهن
في المقابل، هناك كارولا التي لا تحتسب مسافة الإنقاذ. تترك كارولا المسافة تتسع وتتسع وتتمنى لو أن الخيط ينقطع بينها وبين ابنها ديفيد. تتمنى كارولا لو كان لديها إبنة مثل نينا. ابنة معافاة تمامًا وسليمة. إبنة بروح كاملة. ونتساءل هنا: هل ما حل بديفيد حقيقي أم أن والدته مسؤولة عما حصل له، وتحاول جاهدة دفع عقدة الذنب عنها. كارولا لا تشارك أماندا مخاوفها، وتشير بالقول "ديفيد لم يعد يخصني". لكن ما يزيد من إغراء الفيلم أنه كلما فُكت شيفرة من إحدى مشاهده نجد أننا أمام أفكار معقدة ومتشابكة أكثر فأكثر. بهذا المعنى يمكن وصف الفيلم بكونه "ثقيل" بعض الشيء على الرغم مما يظهره من بساطة خارجية وسينماتوغرافية. إنه فيلم قادر على إشهار الأسئلة وكما انه مثير للتفكر بتفاصيله.
الرغبة الدفينة لدى كارولا في أن تكون أمًا لطفل سليم كما هي حال نينا ابنة أماندا دفعها إلى اختطاف الطفلة وعلاجها روحيًا، ربما كانت تمني نفسها بهجرة جزء من روح نينا إلى ابنها ديفيد، أو ربما لأن كارولا كانت تحسد رؤية أي طفل سليم فيما ديفيد غير سليم، وكانت بذلك تهدف إلى جعل جميع الأطفال كطفلها كنوع من المساواة التي تريد فرضها فرضًا على الحياة. إن كنت أمًا لطفل غير سليم فسأعمل على جعل الأطفال جميعهم غير سليمين! ويزداد حسد كارولا تجاه حياة أماندا وما تملكه: منزل وسيارة وأثاث منزلي وطفلة معافاة وحياة مدينية بينما تسكن كارولا في تلك القرية الريفية الشبيهة بالسجن. كارولا تمنت لو كانت لديها حياة شبيهة بحياة أماندا.
وتبعد كارولا المسؤولية عن نفسها لما حصل لابنها ديفيد، سيما وأنها هي من قررت أخذه إلى الساحرة ووافقت على العلاج الروحي، ومن ثم باشرت بعملية نبذه وعدم تقبله كما هو ونكرانه ووصفه بأنه "وحش". فليس سهلًا على الأهل الاعتراف بأخطائهم والوقوف أمام المرآة عراة وتحمل مسؤولياتهم، لأنها ذات وطأة نفسية كبيرة عليهم، وبدلًا من ذلك يستخدمون أساليب دفاعية سيكولوجية عدة بغية الحفاظ على توازنهم النفسي، فالإعتراف بالخطأ وبمسؤوليتهم عما حل باطفالهم سيجعلهم يرزحون تحت عذاب أليم، وهكذا حال كارولا مع ابنها ديفيد. وبدلًا من البحث عن تأثيرات الحمى على الطفل، ومنها تأثيرات عقلية ونمائية تصيب عدة أجهزة في الجسم، بدلًا من البحث عن المقاربة العلمية الطبية للحمى، تلجأ كارولا إلى السحر والشعوذة وتقذف بالمسألة إلى ما هو روحاني وغيبي تهربًا من مسؤولياتها، والتفافًا على نبذها ونكرانها لابنها، وعدم رغبتها بوجوده في حياتها رغمًا عنها.
لغز لا حل له!
إشارات كثيرة تعرضها المخرجة كلوديا يوسا على الشاشة: الهدوء المتوجس، تربية الخيول، الديدان، السكون، الأرواح، الموت... وغالبًا لا تكفي العيون لفهم ما يحصل على الشاشة! وحيث ينجح الفيلم كثيرًا (الشخصيات، الجو العام، الإثارة الهادئة)، فإنه أيضًا يفشل في توضيب وتعليب الأفكار الأساسية التي يود طرحها، وحيث أن العديد من الأفكار (السرد المزدحم) لم تصل إلى خواتيمها: الانجذاب بين أماندا وكارولا، سببية غياب الأباء عن أحداث الفيلم وأدوارهم الهامشية، المسألة البيئية وتلويث النهر والشر الذي يمارسه البشر في تدمير الحياة وانفصالهم عن الطبيعة الأم والضرر الذي ينتجه تشويه الطبيعة/الأم على البشر/الأطفال! إلخ..
الفيلم أشبه ما يكون بلغز، لكن حتى الألغاز توجد لها حلول مسبقة، بينما يوسا ترمي بفيلم كأحجية ليس لها أي حل منطقي يمكن أن يشفي غليل المشاهدين. وهذا ما يفتقده الفيلم، فهناك شعرة فاصلة بين صنع فيلم بطبقات متعددة وشيفرات متنوعة تجعل من الممتع فكفكتها للوصول إلى ما هو أعمق وكامن في الفيلم، وبين ما لا يمكن فهمه أو حله والخروج بخلاصة منه. وهكذا، يصبح من المتعذر الاستمتاع بالمشاهدة لأنها تصير نوعًا من التعذيب الذاتي، أو على الأقل تصبح مشاهدة منفرة.