لم يعد موضوع الله مسألة تطرح حصرًا ضمن الحيّز الإيمانيّ، فمن النواحي العقلية تتولى العلوم واللسانيات تشريح المسألة. كما تشكّل الفظائع التي ارتكبها المؤمنون بالله دون الانشغال الحقيقي بموضوعه، من النواحي الأخلاقية، ضدّ غيرهم أو ضدّ بعضهم البعض، أضعافًا مضاعفة لكل المدونات الأخلاقية التي حملوها واستندوا إليها، لتقف في صف براهين التدمير والإفناء والإبادة مخرجًة موضوع الله من الحيز الإيماني الحصري.
يتموضع الشعر ضمن منطق يبني نفسه بالمعقول أو اللامعقول، في سياق السؤال الإنساني
لكن في وقت توسيع مساحات طرح موضوع الله، نرى أن المساحات عينها ضاقت بمعان أخرى على الموضوع ذاته، أي في شكله الديني، لتبقى التعبيرات الأدبية التي رافقت مسيرة موضوع الله تراثٌ جدير بالمعالجة على الدوام، خصوصًا من قبل الشعراء، وبشكل أساسي في منظوراته الكبرى في تصوير بداية العالم أو نهايته، ومصائر البشر، وأسئلة الخير والشر، والصراع على السلطة. كلها مواد تستحق أن يأخذها الشعر على محمل الجدّ، نازعًا عنها طابع القداسة، مستفيدًا من ملحميتها ودراميتها في نصوص تطرح معاني جديدة لصراعنا الأرضي مع قوى المال والاستغلال. حتى لو أريد التسليم بمقولة أن كل الحبكات قد رويت، إلا أن للشعر مساحة تأويل باقية، بل ومساحة إعادة خلق الحكاية.
اقرأ/ي أيضًا: قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة
قديمًا في أثينا، نزع إلى استعمال مفهوم الـ"دليما" على العقد السياسية التي لا مخرج منها، أو لا مخرج آمن أقله. والسردية الدينية لم تتخط أحد أعقد "دليماتها" بأنها جعلت الإنسان على شاكلة الله، لكنها لم تطالبه إلا بالطاعة والرضوخ، وما كان لها مخاطبته لولا اللغة، ولعل الدين اقتصر على البشر، دون الحيوانات والنباتات، لأنّهم مالكو اللغة. تخبرنا الأديان دومًا عن إيمان الكائنات الأخرى بالله، لكننا نعرف أننا وحدنا من يعرف ذلك، فاللغة، من حيث كونها مفتاحًا سحريًّا على أنفسنا وعلى العالم، تجيز لنا التيقن من أن الكائنات الأخرى لم تعرف إلهًا أو دينًا أو إيمانًا، لأنّ الدين نفسه يُعرّف الله بأنه كلمة الكون، فكيف يكون هناك إدراك لهذه الكلمة لمن لا يعرف اللغة؟ أو غير القادر على تلقيها وتوظيفها!
من جانب آخر، من الفطري الاعتقاد بأن ما نسب إلى الله ليس سوى كلامٍ عن الله. صحيح أننا لا نعرف الراوي دائمًا في التوراة والقرآن، ونعرفه بنسبة أوسع في الأناجيل وأعمال الرسل المنسوبة لرواةٍ أصلًا، لكن الصحيح أكثر أن القصص الدينية التي يرويها الله تُسبق، في كثير من الأحيان، بعبارة "وقال الله"، ما يعني أنَّ راويًا نسب القول إلى خالق، ثم عاد على لسان الخالق المخلوق لينسب كل شيء لنا، كوننا مخلوقين على صورة الله. هذه حيلة شعرية وسردية شديدة الإرباك، ولا يمكن فهمها دون عبقرية اللغة، أعظم اختراعات الإنسان، التي كان الأدب أعظم مفرزاتها بعد آلية التواصل الأساسي، لكن أليس الأدب أيضًا آلية تواصل؟.
تمثل النصوص الدينية مستودعات هائلة لتقلبات اللغة، ليس في استعمالها اليومي أو في معانيها المعجمية وحسب، بل في مخزونها النفسي والتاريخي والثقافي
فكرة الله وكلامه، الله ولغته، الله وما يقوله موضوع الله، بمختلف ما يعنيه ذلك، وبمختلف ما استجره وما يستجره من تفاسير؛ هو ما أثار شهوة الشعر على مرّ العصور، فالشاعر يريد أن يكون الكلمة التي يكتبها، أن يضع نفسه في كلماته، فهذا الذي رهن حياته للكلمات لا يرجو أكثر من أن يتحوّل إلى كلمة يتبادلها الآخرون، لكنّ ارتباط موضوع الله بالكلمة والكلام واللغة، جعل مهمة الشاعر مستحيلة.
الشعر وثيق الصلة بالله، فما أخبرنا عن نفسه، وما يريده منا، وما أعطانا إياه من أفكار حول البداية والنهاية، وكيف قامت علاقته مع الأنبياء، جاء في الكثير منه حاملًا لمنطق شعري، أو يُضمر ولعًا بالشعر. فلنتذكّر هنا روائع شعرية مثل المزامير ونشيد الإنشاد والمراثي في الكتاب المقدّس، وسور مريم ويوسف والرحمن في القرآن. بالإضافة إلى السرديات النثرية، التراجيدية أو الفانتازية، بشخصياتها التي تغيّر الواقع بما امتلكته من معجزات أو إرادة ذاتية.
ولنتذكّر أيضًا أن الشعر والقصص بطابعه الديني لا يهتم بإقناعنا، بل يُنشد إخضاعنا إلى الحقيقة التي يعرضها علينا، ويريد التغلّب على واقعنا الإنساني ليُلائمه مع تركيبة الحقيقة الإلهية، لكنه مع ذلك جزء من ميراث الكتابة في واحدةٍ من ذراها الفنية لغويًّا، وفي قوة نماذجها الإنسانية المفعمة بسؤال المصير. لنتذكّر إلى جوار ذلك كله، أنّ الأرضية الفكرية لتلك النصوص تعطّل أي جهد إنساني ممكن، على صعيد تقديم تفسير آخر لجدوى الحياة ومعنى الموت، وللألم الذي يصوّر تجاربنا الحية، في واقعنا السياسي الاجتماعي، أو سياقنا الفردي، ضمن عالم محدّد المعالم الزمانية والمكانية.
إذا كان التاريخ مختلطًا بالأساطير، فالدين خزّان للتاريخ والأساطير معًا، أُنشئ بأسلوب لغويّ رفيع وخيال متصل بنفسيات ومجتمعات صانعيه
تكمن مشكلة الأرضية الفكرية للنص الإلهي في احتكار اللغة العالية، الأمر الذي يقودنا إلى الانسحاق أمامها، فنقبل بسلبنا شفاهنا ومنحنا الآذان فقط. كما يعطّل إمكانية النظر إلى الزمن البشري المحدود أمام الزمن الإلهي اللامحدود.
اقرأ/ي أيضًا: أوكتافيو باث.. مغامرة الشاعر
تساهم استعادة الشعر للغته في التصدي للأصولية التي تتوطد كلما توطدت علاقتها بالزمن الإلهي، الأزلي والأبدي. استعادة لغة الأرض المُصادرة من قبل السماء تمنح الجهد الإنساني معناه، وتعيد للحلم قيمته، فحيث لا يعود الزمن مرتبطًا بدائرة مرسومة سلفًا، لا معنى فيها لأيّ فعل من قِبلنا إلا ضمن منطق الطاعة والخضوع. بكسر هذا النظام يسجّل الشعر، كما فعل دومًا، تاريخًا آخر للإنسان.
تأخّر ظهور موضوع الله على مسرح التاريخ، والمنجزات الدنيوية المكتشفة عبر التنقيب تؤكّد ذلك، لكنه ما أن ظهر حتى استحالت منازعته في كثير من المواضيع، من بينها اللغة. ولكي لا تتحول محاولات النقد والتفكير صراعًا لا معنى له حول حقوق ملكية التاريخ، خصوصًا مع من يدعون أنهم ورثة الله، أو حتى مع جمهوره، أو أعدائه الذين يحكون قصته بشكل ساذج، نحتاج إلى تلك الجهود التي بحثت ونقّبت كل سفرٍ من أسفاره، من أجل التحرر من روايةٍ واحدة أوصلت العقل إلى الجمود. أما شعريًّا فلن يحدث ذلك مع قصائد تعيد ارتباك إله أسفار التوراة الأولى، بل بفتح الشعر على أفق الكتابة الدرامية، لتحضر العناصرُ المسرحية، وتأخذ البنى شكلًا قصصيًّا، ولا يستسلم الخيال للشؤون التافهة للذات التي جعلت الشعر، خصوصًا في المراحل الأخيرة، نوعًا من أقوال تصدر عن آلهة صغيرة.
على ذلك كله، وسواه مما يقبل الإضافة إلى هذه الرؤية، يتموضع الشعر ضمن منطق يبني نفسه بالمعقول أو اللامعقول، في سياق السؤال الإنساني.
في مساهمة الشعر هنا، بالافتراض أنها تتكامل مع الجهود الأخرى في الحقول المعرفية جميعها، يتفكك استحواذ موضوع الله على الوجود، ويبقى منه الربّ الذي يحتاجه المؤمنون في عباداتهم. فإذا كان التاريخ مختلطًا بالأساطير كما اتفق الباحثون والعلماء، فالدين خزّان للتاريخ والأساطير معًا، أُنشئ بأسلوب لغويّ رفيع وخيال متصل بنفسيات ومجتمعات صانعيه.
تحضر النصوص الدينية للشعراء كالطقوس للمتدينين إن أرادوا فهمها، وكالآثار للفنيين والمعماريين وعلماء الاجتماع
كما يجد المشغول بالاتصال الروحي طريقته التي تشبه طرق من سبقوه، وحقّقوا بها سلامهم الداخلي، وكما يجد الباحث الفضوليّ ملامح وصورًا من طبيعة حياة الناس في العصور الخالية، الأمر الذي يجعله، في حالة الفنّان، يقف مشدوهًا أمام تلك النتاجات، وبالرغم من عقله الحديث وأدواته المتطورة يعجز عن تخيل طريقة إنجاز تلك التحف، دون أن يفهم أغراضها الوجدانية وخلفياتها الروحية. فآثار الأقدمين لم تكن ذات وظائف فنية بالمعنى الذي نفهمه اليوم بمقدار ما كانت وظائفها روحية.
بناء على هذا كله، النصوص الدينية للشعراء كالطقوس للمتدينين إن أرادوا فهمها، وكالآثار للفنيين والمعماريين وعلماء الاجتماع؛ هي مستودعات هائلة لتقلبات اللغة، ليس في استعمالها اليومي أو في معانيها المعجمية وحسب، بل في مخزونها النفسي والتاريخي والثقافي، مثل كثير من الكلمات التي تقلّبت معانيها ودلالاتها. دخول دهاليز هذه اللغة يعين الشاعر على بناء علاقته الخاصة مع كلماته، وإنشاء نظامه الشخصي من الجمل والعبارات، ناهيك عن اكتشاف احتمالات هامة، لا على صعيد تجميع الاستعارات والمجازات والصور الفنية، إنما في اكتشاف الطرق التي استعملها عقل تلك النصوص في صناعة استعاراتها
حرّرت الدراسات الكتابية الكتاب المقدّس من قداسته، وساهمت في تناوله بالنقد الأدبي، ولأنّ هذا لم يحدث إسلاميًّا فربما يسدّ التناول الشعري الواعي لهذا الميراث فراغًا معرفيًّا، معظم ما ينجز فيه مقتصر على البحث عن وجوه الإعجاز.
اقرأ/ي أيضًا: