تمحورت بعض أعمال الفيلسوف البولندي -البريطاني زيغمونت باومان حول التنافر المطرد بين العالم المتقدم والعالم المتأخر. ومن جملة ما لاحظه في هذا السياق يحلو لي تأويل نقطة محورية في سياق أعماله التي ناقشت هذه المسألة. يعتبر باومان أن الغرب منذ عقود ينحو شيئًا فشيئًا نحو التخلي عن معاينة الدول المتأخرة. فمن الرغبة بالاستعمار وهي رغبة تعني أن هذه الدول المتقدمة تطمع في إقامة علاقة وثيقة مع تلك المتأخرة، ولو كانت علاقة رب عمل وأجير، إلى الانسحاب العسكري والسياسي، وصولًا إلى الانسحاب المعرفي، وصولًا إلى الانسحاب السياحي. وقد لعبت الحركات الاستقلالية في هذه الدول المتأخرة دورًا حاسمًا في دفع الغربيين إلى الشعور بأنهم غير مرحب بهم في هذه القفار، إلا إذا حملوا بيانهم السياسي معهم. بمعنى: ترحب هذه القفار بمفكرين مثل نعوم تشومسكي لأن بيانه السياسي يتهم الغرب بارتكاب جرائم في حق الشرق، فيما يتم إهمال مفكرين آخرين، بسبب أن أعمالهم لا تحمل بيانًا سياسيًا بمثل هذا الوضوح.
لم يقف أمر الاستعداء الغربي عند حد مناهضة الاستشراق وتطلب البيان السياسي من الغربيين، بل ذهب أبعد من ذلك إلى افتراض أن كل مواطن غربي هو مشبوه بالضرورة
لم يقف أمر الاستعداء الغربي عند حد مناهضة الاستشراق وتطلب البيان السياسي من الغربيين، بل ذهب أبعد من ذلك إلى افتراض أن كل مواطن غربي هو مشبوه بالضرورة، ولم تتورع حكومات عن تلفيق تهم لمواطنين غربيين ومحاكمتهم وسجنهم، في محاولة مفضوحة لإرسال رسائل سياسية إلى دولهم التي يتحدرون منها، والضغط عليها في بعض الملفات. أما الحركات الجهادية المسلحة فذهبت أبعد من هذا كله، حين اعتبرت قتل المدنيين الغربيين جهادا يستحقون الثناء عليه.
تأسيسًا على تربية الحقد هذه، ونموها حتى البلوغ، لم يعد الغربي راغبًا في المخاطرة بحياته من أجل أخذ صورة أمام أهرام الجيزة أو قلعة بعلبك. وباتت السياحة الغربية محصورة في أماكن معولمة ومحروسة جيدًا، ومعروفة المآلات سلفًا. وبكلام آخر، قامت الحركات السياسية والحكومات الممانعة والمناضلة بقتل الفضول الغربي الذي كان في ما سبق مفتونًا بأنماط الحياة وطرق العيش التي كانت تضج بها الحياة في هذه المناطق القصية عن مداركه وتصوراته. وبقتل الفضول تحولت السياحة الغربية في الدول المتأخرة إلى سياحة محسوبة المخاطر سلفًا، وسطحية المقاصد. بمعنى أن السائح الفرنسي في تايلاند، لم يعد مهتمًا بتفاصيل الحياة اليومية للتايلانديين، واقتصرت رغباته على تأمين خدمات عامة وسطحية، من قبيل الخدمات الجنسية السهلة التناول، وتذوق الأطعمة الأقرب إلى ذائقته الأصلية، والتجول في شوارع تشبه الشوارع التي يعيش فيها في بلده الأصلي.
هذا التردي في الاستقبال من جهة الدول المتأخرة والتخلي عن الفضول من جهة الدول المتقدمة جعل العالم المنظور والمعرّف، هو العالم المصور فقط. بمعنى أن الفرنسي سيصور في بيروت نساء جميلات يشبهن في مقاساتهن وزينتهن ولباسهن النساء التي يمكن معاينتهن في باريس أو لندن. وأن المباني التي سيصورها السائح في بغداد أو القاهرة تشبه المباني التي يمكن أن يراها المرء في روما ونابولي. بل وذهب أهل البلاد المتأخرة إلى اختصار بلادهم بهذه المعالم المسطحة، وغفلوا أشد الغفلة عن الاجتماع المعقد الذي يتنفس بالقرب من مراكز العواصم. أي ان المواطن المحلي بات يهتم أيضًا بالواجهة العامة لمدينته، ويهمل الأزقة الخلفية والمجتمعات الأهلية. إلى الحد الذي باتت أجزاء كبيرة من مدن العالم المتأخر خارجة عن مدارك أهلها على نحو تام، ولا تشير إلى وجودها من قريب أو بعيد.
لم يعد الغربي راغبًا في المخاطرة بحياته من أجل أخذ صورة أمام أهرام الجيزة أو قلعة بعلبك. وباتت السياحة الغربية محصورة في أماكن معولمة ومحروسة جيدًا
أحسب أن هذا المسلك، وهو في أصله سياسي - إيديولوجي، فوّت على أطراف العالم ومجتمعاته المتأخرة إمكان التعبير عما يعتمل فيها، وبعضها يستحق التوقف عنده مليا، وبعضها الآخر يجدر بنا أن نحاول إصلاح أعطابه. والنتيجة التي حققناها اختصرت في ملمحين:
الأول تمثل في محاولة التشبه بواجهات المدن الغربية، ونبذ كل ما يخالف الصورة السياحية التي تتسرب إلى مداركنا عن تلك المدن، ما جعل عالمنا المعولم في تلك البلاد ضيقًا إلى درجة الاختناق، ودفع بالكثيرين من أهل تلك البلاد ومتعلميها إلى الهجرة عنها نحو البلاد التي تتسع عولمتها لهم.
وتمثل الثاني بتقوقع المجتمعات المحلية خلف حجابها القاتم، ورفضها التواصل مع الغريب والآخر، والتشديد على محليتها الضيقة، بحيث بات الشارع والحيز العام منفصلًا تمامًا عن الدواخل والأحياز الخاصة ولا يمت إليها بأدنى صلة. وفي هذا السلوك ما جعل الشقة بين العالمين متسعة إلى درجة لا يمكن رتقها بالسياحة وحدها حتى ولو رافقها، أي السياحة، الرغبة بالتعرف والفضول.