ضمن حُمّى الكتب "الأكثر مبيعًا"، وسُعار الكتّاب اللاهثين خلف الجوائز والشهرة، ونتانة "الإسهال" الكتابيّ الذي صار علامة لعصر وسائل "التواصل"، وجدت لزامًا عليّ، وعام 2019 ينطوي إلى غير رجعة، الإشارة إلى عملين أدبيّين بديعين صدرا خلال هذا العام، وسيستمرّان بعده طويلًا على ما آمل. هي تحيّة لكاتبين مجدّين، وأمل بات يتضاءل في أن تستعيد الكتابة الفنيّة صدارة مشهد "ثقافيّ" صار يُعرّف بالرداءة والابتذال.
- أكرم مسلّم في "بنت من شاتيلا"
لم تشدّني في هذه الرواية لغتها الأدبيّة الرّفيعة فحسب، ولا حصرًا أسلوبها الذي يقترب كثيرًا –حدّ التطابق- مع التقنيّات الفنيّة التكثيفيّة للقصّة القصيرة، وهما ميزتان تجعلان –وحدهما- من هذا الكتاب عملًا متميّزًا. ما شدّني فيها أكثر هو ذاكرة بعيدة مشتركة تجمعني وإحدى شخصيّاتها: كلانا رأى مذبحة صبرا وشاتيلا صورًا على تلفاز مغبّش الصورة وهو طفل، وكلانا ظلّت هذه الصّور عالقة في ذاكرته كندبة، ندبة متحرّكة تتوالد وتتكاثر كمذابح الفلسطينيين المستمرّة حتى اليوم، ومثلها مثل كلّ المذابح التي يرتكبها الأوروبيّون البيض، تبقى بلا صوت، وتُكنس كغبار تحت سجّادة صالون العالم المتحضّر، عالم –كما إحدى شخصيّات الرواية أيضًا- يهرب من رائحة الجثث باعتبارها تنغيصًا لا معنى له ليومه الجميل، أو هو لا يشمّها من الأساس –كشخصيّات أخرى في الرواية-. مشكلة هذا الكتاب الوحيدة أنّه بضرباتٍ سريعة، لكنّها مدروسة، تعطي دورًا مُضخّمًا وملائكيًّا لـ"القائد العامّ" (ياسر عرفات بصفته، دون ذكر اسمه)، وتشيطن "المُلتحين"، داخل معالجة مبتسرة، لا أرضاها لكاتب جادّ ومجدّ وبارع كأكرم مسلّم، حتى وإن أورد هذه الأمور كإشارات عابرة.
ما يشفع لأكرم هو روايته ليست عن القائد العام، ولا عن الملتحين، بل هي عن مذبحة مستمرّة، وأناس يرفضون أن ينسوا وأن يتطبّعوا على أن الظلم شيء عاديّ. "بنت من شاتيلا" هي عمل أدبيّ متميّز من كاتب أعدّه واحدًا من أبرز كتّاب فلسطين اليوم.
- مجد كيّال في "الموت في حيفا"
هذه المجموعة القصصيّة بديعة، كثيرٌ من قصصها يضرب عميقًا داخل ما يسمّى بالإنجليزيّة: your guts.
تولّد مشاعر داخليّة عميقة من القرف حينًا، والتعاطف حينًا، والحزن حينًا، وهو أمر يصعب تحقيقه من خلال النصوص الأدبيّة عمومًا، ويفعله مجد كيّال بأريحيّة شديدة يُحسد عليها، مُنتقلًا من حبّ لاغتصاب، ومن لكمة لقبلة، ومن عطف لانتقام، ومن بحر لانتحار، كما يتجوّل في شوارع مدينته، حيفا، وأماكنها المركّبة التي تشبه الوضع الاستعماريّ الاستيطانيّ المركّب الذي يضغط عليها، وتتبيّن إفرازاته في النصّ الذي يتمشّى بسلاسة بين فصحى طازجة، معاصرة، وعاميّة تجعل من مسار الأحداث وشخوصها أكثر حقيقيّة، وتعزّز الالتباس الهائل بين أماكن فعليّة، وأحداث قد تكون متخيّلة بالكامل، أو لا تكون.
ما أزعجني في هذا الكتاب عنوانه الذي أحسسته مفروضًا من الخارج، محاولة لفرض سياق عامّ يُحول قصصه إلى "رواية"، أو لنقل: إلى سرد متّصل، لكن مقام القصّة يتأبّى على هذا التأطير، فالبطولة المُطلقة لنصوص "الموت في حيفا" هي لعلامة فن القصّة الأساسيّة: الحدث، إذ يتغيّر ويتبدّل ويتجعلك وينفرد في كلّ قطعة، وينجح مجد نجاحًا مُبهرًا في تجنّب "المفارقة" و"الإدهاش" تمامًا (وهي علامات ابتذال فنيّ) ليصنع نصًّا تستمرّ في التفكير فيه طويلًا بعد طويه.
اقرأ/ي أيضًا: