سفن تغرق وعلى متنها المئات من المهجّرين والهاربين من نار الحروب والجوع والذل في بلادهم. أجساد تطفو كالفلّين الملوّن على الشّواطئ، لأطفال وأمّهات وشباب في مطلع العمر. بيوت تتهدّم على أهلها وعوائل تُدفَن تحتَ الرّكام، آخرون يتمُّ شِواؤهم على النار مثل الذّبائح.
كذلكَ مَنْ يُغتصب أو يُذبح أو يُباع في أقفاص، في الأسواق والحارات. كل هذا يأتينا بانتظام في عروض "مشوّقة". مشهدٌ يراهُ العالم أجمع على الشّاشات بإخراج فنيّ مُتقن يثير إعجاب المختصّين بالسّينما وفنّ التّصوير حول "جمال" الأداء السينمائيّ وقدرته تلك على الإيصال والتأثير.
يتكرّر مسرح الدراما الحيّة منذ سنوات أمام أعين الكاميرات والمراسلين الذين يتسابقون لنقل المشهد "حيًّا" وطازجًا إلى مشاهديهم في بلدانهم، لكن من يتحرك؟
هكذا يتكرّر مسرح الدراما الحيّة منذ سنوات أمام أعين الكاميرات والمراسلين الذين يتسابقون لنقل المشهد "حيًّا" وطازجًا إلى مشاهديهم في بلدانهم. أجل إنّهم ينقلون صورة الموت "حيًّا" بلغة الإعلام. والكلّ يُشاهد ويشهد. ولكن من يتحرّك؟
تتداعى هذه الصّور إلى رأسي وذاكرتي عقب الجريمة البشعة والوحشيّة التي طالت الإعلاميّة الفلسطينيّة المعروفة شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة في الضفّة الغربيّة المحتلّة. بدم بارد وبرصاصة في الرّأس. وقبلها اقتحموا الأقصى وقتلوا مصلّين وزهّادًا وحتّى الأطفال والشّيوخ لم ينجوا من أفعالهم ووحشيّتهم المريضة.
كلّ يوم تقتل إسرائيل الفلسطينيّين، هكذا هي الحال معهم كلّ يوم. الدّم الفلسطينيّ مُستباح والعرب يتسابقون في فنونِ الانبطاح، وما أشطرهم، أمام إسرائيل، والعالم لا يجرؤ على أن ينبسَ ببنت شفة لكي لا يُحدث ضجة أو تشويشًا على مشهد القتل الإسرائيليّ، مشهدٌ ممنهج قوامه تصفية كلّ من ساهم ويساهم في رفع الصّوت وإعلاء راية القضيّة وجلب الانتباه إليها وعليها.
"لا تُزعِجوهم، أتركوهُم يُنجِزون مهمّاتهم الدّمويّة بهدوء". أليسَ هذا هو لسان حال أغلب رجال السّياسة والإعلام والاقتصاد والفكر والأدب؟ ندرةٌ نادرة تحملُ القلم وترفع صوتها، ندرةٌ حرّة لا تخون مواثيقها ولا عهودها. أمّا عن العرب فلا تسألوني، أنا خجلٌ من إطلاق أيٍّ من الصّفات على حالهم. اتركوهم، هؤلاء ماتوا منذُ زمن. الجُثث فقط هي الّتي تَجوبُ الأسواق والشّوارع.
أتذكّر الآن مزحة سوداء للشّاعر الفرنسيّ آلان بوسكيه عندما قال إنّه يفضّل أن يتناولَ عشاءه أمام مشاهد رُعب حقيقيّة لما فيها من الإثارة والمشهديّة النّادرة. ربّما هذا هو ما يدفع الشهيّة إلى أقصى درجاتِ النّهم. كان ذلك في نهاية القرن المنصرم لكنّه رحل قبل أن "يتمتّع" برؤية هذه المشاهد الّتي تنبّأ بها.
مشاهد الموت والفجيعة، بكلّ بساطة، سقطت من الذاكرة الإنسانية اليوم. لم يعُد يهزّ إنسان عصر الإنترنت والشّاشات الصّغيرة الّتي تملأ الجيوب والحقائب، أيّ شيء من المأساة الإنسانية الّتي - ولسوء الحظ - دمُها يسيل من عروق بلادنا وشعوبنا.
الدّم العربيّ اليوم، مثل الخارطة العربيّة هيَ من وما يؤثث قارة المأساة والدّمار على المستوى البشريّة أجمع. هذا الدّم لم يعد يثير أحدًا حتى داخل حدود الخارطة العربيّة نفسها. بل إنّ هناك من أبناء هذه العائلة العربيّة من يَشحذُ السّيوف ويصبُّ الزّيت على النّار، هذا إذا لم نَقُلْ يشمتُ وينتقم!
ماذا يعني هذا المشهد الدّمويُّ المجفَّف على الشّاشات وسواها؟ ماذا حدث لكي تتحول المأساة البشريّة إلى صورةٍ عابرة لا تبقى حتّى في الذّاكرة. صورٌ، مجرّد صور، تأتي عليها أخرى لتزيحها من المشهد. صورٌ أكثرُ دمويّة كلّ مرّة. أكثر غرابة وإيغالًا في العنف والجريمة. صورة تدحضُ صورًا والشّاشة مُشرَّعة مثلَ الشّرايين. الدّماء صارَت أقلّ قيمة من الحبر وقد فقدَتْ، ليس لونها فحسب، بل وحتّى ماضيها ورموزها.
لن يظلّ اندحار المأساة هذا على المستوى الإنساني مجرد مشهد عابر لأن ترسيخ هذا الامحاء المأساوي من شأنه تشويه الكيان البشري ومسخه بشكل لم يحدث قط
إنها الظاهرة الجديدة قرينة هذا العصر، حيث تندحر وبشكل نهائي المأساة وتنسحبُ من المشهد الكونيّ إلى هامش بارد مُعتِم. لقد استطاعت التّكنولوجيا وابتكاراتها الّتي فاقت الخيال وكلّ تصور وكذلك الأزمات بكلّ أنواعها الاقتصادية مثل الأخلاقية المتراكمة بعضها على بعض اقتلاع الجذر المأساوي في حياة الشعوب وإزاحته من وعن ضمائرها. إنّ اندحارَ المأساة هذا فتح الباب إلى مشاعيّة جديدة وهي سقوط قيمة الإنسان في البورصة إلى أقل الأثمان المعروضة في سوق العملات. إن اندحار المأساة هذا هو بكلّ بساطة اندحار الإنسان، لأنّ تعويم الجرح بهذه الطريقة يكسرُ كلّ الحدود بين الفعل البشري والفعل الحيوانيّ، ناهيك أنّ الحيوان لا يقتل إلّا جوعًا ودفاعًا عن النّفس. وهنا يمكن اعتبار الجريمة امتيازًا بشريًا متفوقًا للبشر على سواهم من الكائنات.
أتذكر الشنفرى في لاميته:
"ولي دونكم أهلون سيد عملس وأرقط زهلول وعرفاء جيال
هم الأهل لا مستودع السر ذائع لديهم ولا الجاني بما جاء يخذل".
إذًا هو مجتمعُ الحيوان من الذئاب والنمور والأفاعي من اختارهم الشنفرى أهلًا بدلَ أهله من بني الإنسان. أدرك الشنفرى منذ 15 قرنًا هذه الحقيقة أمّا نحن فنتلوّع من حيونة الأسرلة وفجاجتها وسخطها وكرهها للبشريّة يوميًا، ولا أحد يرى ولا أحد يبصر أو يتحرّك.
لن يظلّ اندحار المأساة هذا على المستوى الإنساني مجرد مشهد عابر لأن ترسيخ هذا الامحاء المأساوي من شأنه تشويه الكيان البشري ومسخه بشكل لم يحدث قط، بالرغم من كلّ البشاعات والجرائم التي مرّ فيها عبر كل عصور التأريخ وأشدها وحشية. يحدث هذا ولكننا لا ندرك أبعاده الآن لأنّ من في وسط المعركة لا يرى أطرافها، أجل، سيرى أحفادنا هذا الوجه البشع الذي نخرج به في الحياة اليوم.
الرّحمة لروحك شيرين، وجهُ القضيّة الفلسطينيّة الباسلة وصوتها الحقّ وكلمتها المدويّة وشاشتها المنيرة. أصرخُ إليكِ اليوم، هؤلاء القتلة سيقتلوننا جميعًا، قبل أن يطبقَ ظلام على اللغة والمنطق. ظلامٌ ظلامٌ غطّى كلَّ شيء.