بعد أدوارٍ حافلة بالأهداف والمفاجآت، وصل إلى نهائي النسخة الخامسة من كأس العالم المقامة في سويسرا فريقان لم يسبق لهما الوصول إلى هذا الدور، حيث دخل المجريون اللقاء مسلّحين بـ31 مباراة دون هزيمة، اكتسحوا في آخر 4 منها خصومهم الكوريين الجنوبيين 9-0، وألمانيا الغربية 8-3، والبرازيل والأوروغواي بنتيجة 4- 2، بينما اضطر الألمان من أجل تأهلهم لدور الثمانية لخوض مباراة فاصلة مع الأتراك فازو بها 7-2، وذلك بعد فوزهم على الأتراك نفسهم 4-1، وخسارتهم أمام المجر 8-3، قابلوا بعدها في دور ربع النهائي يوغوسلافيا وهزموها 2-0، وسحقوا النمسا في نصف النهائي 6-1.
أصدرت المجر طوابع بريدية تحتفل بالفوز بكأس العالم وحضّرت تماثيل ضخمة للاعبين المتوقع فوزهم بالكأس
وهنا أجمع المراهنون على كسب المجر المباراة النهائية دون أي عناء، سيما وأن لاعب البطولة الأبرز بوشكاش سيعود للمشاركة مع بلاده بعد غياب بسبب إصابة تعرّض لها أمام الألمان أنفسهم، فيما رفض المدرب الألماني سيب هيربرغر الاستسلام وأطلق تصريحات أمام لاعبيه بقيت تُكرر حتى وقتنا الحالي، فهو أوّل من قال "الكرة مدوّرة"، و "المباراة تستمرّ لمدة 90 دقيقة"، ويعني بذلك أن لا مستحيل في كرة القدم، في وقت أعدّ به المجريون العدّة للاحتفال باللقب الحتمي في نظرهم، حيث حضّر الوفد المجري بسويسرا حفل استقبال للاعبين والمسؤولين الكبار والصحافيين كي يتم في اليوم التالي بعد المباراة النهائيّة، بينما تم إصدار طوابع بريدية خاصة بفوز المجريين بكأس العالم، وبدأ المسؤولون المجريون بالتحضير لتدشين تمثال ضخم للاعبي المنتخب، لكنهم نسوا أن "الكرة مدوّرة".
كان قائد فريق ألمانيا الغربية فريتز فالتر يقبع في معسكر للاعتقال بصربيا وكاد يفارق الحياة قبل أن تنقذ حياته مباراة مع جنود روس
كان قائد فريق ألمانيا الغربية فريتز فالتر أحد مئات آلاف الشبّان الألمان الذين قبعوا في السجون ومعسكرات الاعتقال بأوروبا عقب سقوط الرايخ الثالث في الحرب العالمية الثانية، ولكن القدر وكرة القدم أنقذا هذا الشاب، فكان على وشك أن يفارق الحياة في إحدى معسكرات الاعتقال بصربيا، قبل أن يخوض مباراة كرة قدم مع فريق من الجنود الروس، فأنقذت هذه اللعبة حياته عندما اكتشف السجّانون موهبته الخارقة، ودارت الأيام وأصبح فريتز فالتر قائداً لفريق يصل إلى المباراة النهائية، هو يعلم جيّداً أن كرة القدم التي أنقذت حياته تستطيع أن تنتشل شعباً مقهوراً وتزرع السعادة على وجهه.
يُحسب للمدرب الألماني سيب هيربرغر أنه حادّ الذكاء، فرغم خسارته القاسية مع المجريين بالدور الأول 8-3، إلا أن مباراته مع زملاء بوشكاش كانت طُعماً بحقّ، حيث أشرك تشكيلة ضعيفة تضمّنت 4 لاعبين لم يلعبوا سوى تلك المباراة بالبطولة، وحققت مبتغاها عندما أُصيب بوشكاش في ذاك اللقاء، ولم يقتصر عمل سيب هيربرغر على الجانب النفسي والمعنوي والتكتيك الخاص بتشكيلة اللاعبين فحسب، إذ تقول الروايات إنه اتصل بصديقه أدولف داسلر واشتكى له من هطول الأمطار الذي يؤثر سلباً على أداء لاعبيه في البطولة ويساهم بانزلاقهم، ما حدا بأدولف لأن يبتكر أحذية مناسبة لذلك، حيث ثقب الأحذية ووضع داخل كل منها مسامير ومثبّتات وقاعدة جديدة وأرسل الأحذية بعد تجربتها إلى معسكر الفريق الألماني بسويسرا.
لقد كان أدولف داسلر الملقّب بـ آدي ابناً لصانع أحذية، وكان وأخوه رودولف يعشقان كرة القدم فقررا صناعة أحذية خاصة بذلك، قبل أن يحدث خلاف بين الأخوين فأسس كل منهما شركته الرياضية الخاصة، فسمّى آدولف شركته بأول حرفين من لقبه وكنيته، آدي + داس، وهنا تأسست شركة "أديداس" عام 1948، وأسس أخوه رودولف شركة منافسة سمّاها "بوما"، وما تزال الشركتان تتنافسان في عالم الملابس والأحذية الرياضية حتى الآن، ولم يتكلّم الشقيقان مع بعضهما حتى وفاتهما منذ خلافهما الذي لا تُعرف أسبابه، لكن تتفق مصادر عدة أن مصدره الأساسي خلاف بين زوجة كل منهما مع الأخرى، وأصبحت شركتاهما هما الأشهر في العالم الرياضي.
أمام أكثر من 60 ألف متفرّج احتشدوا في ملعب ونكدورف بمدينة بيرن التقى الفريقان المجري وألمانيا الغربية، وبعد إطلاق الحكم الإنجليزي وليام لينغ صافرة البداية بـ 6 دقائق افتتح النجم العائد من الإصابة باكورة الأهداف، قبل أن يضاعف زميله تسيبور النتيجة في الدقيقة الثامنة، وهنا لم ييأس الألمان، فقال أحد اللاعبين للقائد فريتز فالتر والدموع في عينيه "لا يهم"، كما نظر شقيق فريتز فالتر أوتمار فالتر، وقال له "فريتز، استمر في العطاء، نستطيع أن نقلب الأمور إلى مصلحتنا".
وبالفعل سجّل مورلوك هدف تقليص الفارق بالدقيقة 10، واستطاع ران أن يعدّل النتيجة بعد ذلك بثمان دقائق، وانتهى الشوط الأول بالتعادل الإيجابي 2-2، ومع بداية الشوط الثاني انهمرت الأمطار وامتلأت أرضية الملعب بالمياه، فأتى مفعول أحذية آدولف داسلر، ولم يستطع لاعبو المجر أن يظهروا فنيّاتهم أمام ذلك الطقس الرديء والذي بات يُعرف بعالم كرة القدم في المباريات التي تحظى بطقس مماثل باسم "طقس فريتز فالتر".
انهمرت الأمطار في الشوط الثاني وامتلأت أرضية الملعب بالمياه، فأتى مفعول أحذية آدولف داسلر التي خدمت ألمانيا الغربية كثيراً
أصبحت المباراة سجالاً بين الفريقين، وأنقذ حارس ألمانيا الغربية مرماه من أهداف محققة، وفعلت العارضة الألمانية ما فعله الحارس أيضاً، إذ كان معلّق المباراة الألماني هيربرت زيمرمان وهو الضابط النازي السابق، ينقل وقائع المباراة إلى أن وصل اللقاء للدقيقة 84، وسنحت لران كرة سددها بقوّة على يمين حارس المجر، عندها صرخ المعلّق هيربرت زيمرمان "ران سجّل هدفاً ،هدف، هدف، هدف، هدف " وصمت لمدة ثمان ثوان كي يستوعب الصدمة، وبعد ذلك صرخ بأعلى صوته " هدف لألمانيا، ألمانيا متقدّمة 3-2، انعتوني بالأحمق، انعتوني بالمجنون"، ما زال الشعب الألماني يذكر حتى الآن بشغف حروف المعلّق المرتجفة التي قالت هذه الكلمات، وتعتبر كلمات هيربرت زيمرمان هذه إحدى أكثر المقولات الخالدة في تعليق كرة القدم.
بعد الهدف كثّف المجريون ضغطهم على مرمى الألمان، فسجّل بوشكاش هدفاً ألغاه الحكم بداعي التسلل، وتألق الحارس الألماني في الذود عن مرماه، إلى أن أعلن الحكم نهاية المباراة وفوز ألمانيا الغربية بكأس العالم بتغلّبها على الفريق المجري الذي لا يُقهر 3-2، فصرخ المعلّق زيميرمان "انتهت، انتهت، انتهت المباراة..! ألمانيا بطلة للعالم بفوزها على المجر 3-2 في النهائي في بيرن، لقد تمّت المعجزة".
باتت معجزة بيرن واقعاً سطّره الألمان بقيادة المدرب سيب هيربرغر، وكابتن الفريق فريتز فالتر العائد من معسكرات الاعتقال، وشكّلت هذه المباراة نقطة مفصلية في مسيرة المنتخبين، إذ اعتاد الألمان بعدها على الحضور في نهائيات كأس العالم وفازو باللقب 3 مرات لاحقاً، فيما لم تصل المجر للنهائيات سوى في عام 1986، وانتهت أسطورة فريقهم القوي الذي لن يخشاه أحد بعد تلك المباراة التي شهدت نهاية أقوى جيل كروي بتاريخ المجر، وأكثر فريق اكتسح خصومه بتاريخ كأس العالم.