تواجه المغرب اليوم المنتخب الفرنسي حامل اللقب في نصف نهائي مونديال قطر، ليكون أول فريقٍ عربي وأفريقي يصل إلى هذه المرحلة من صنع التاريخ ورسم بهجةً وذكرى لن تُنسى. وربما ليس هناك من يستحق الشكر والثناء أكثر من الحارس ياسين بونو الذي تفوّق على مهارات زياش وسرعة حكيمي وطار ذكره على كل لسان في مختلف أرجاء العالم، وأصبح اليوم الشغل الشاغل لقلوب وعقول متابعي الكرة.
قصة المغرب وقصة ياسين كانت هي أجمل مفاجأةٍ لنا نحن العرب في مونديال قطر
وصول ياسين بونو إلى أن يكون أهم لاعبي فريقه، وربما أهم لاعبٍ في المونديال، ليس محض الصدفة، فقد كابد ياسين رحلةً شاقّةً قبل أن يصل إلى هنا، والقصة تبدأ بقرارٍ من الفار.
أقدار الفار
"مسيرتي كانت ستنتهي لولا الفار" ليس بأيّ حالٍ عنواناً جذّاباً لمسيرةٍ ناجحةٍ ولا هو أيضاً يُوحي بأن هذه "المسيرة" للاعبٍ يملك مقوّمات النجاح. كل متابعي الكرة، أو معظمنا على الأقل، يمقت الفار، الذي يُبطئ رتم المباراة ويملأ صدورنا توتراً لا حاجة لنا به، هذا غير أنه يفشل في كثيرٍ من الأحيان بحسم الجدل بسبب قرارٍ غريب أو أحياناً تجد المشجّعين محتارين لماذا مرّت هذه الحادثة الواضحة جداً مرور الكرام دون العودة إلى الفار. ولكننا ونحن نتمنّى لو كنا مع لاعبي أسود الأطلسي وهم يرمون ياسين بونو في الهواء علينا أن نذكر أننا مدينون للفار بوصول ياسين إلى ما وصل إليه. فلربما كان سينتهي الحال بحارس المغرب ياسين بونو، الذي حصل على جائزة رجل المباراة في كلتا مباراتي المغرب بالأدوار الإقصائية أمام إسبانيا والبرتغال، باللعب في أحد فرق أوروبا المغمورة التي لا نستطيع نطق اسمها أو ربما الاعتزال المبكّر لولا لحظةٍ مفصليةٍ حابته فيها أقدار الفار.
قصتنا تبدأ في شهر شباط/فبراير 2020، كان وقتها ياسين بونو اسماً غير معروف لحارسٍ عادي، بل ربما أقل من ذلك، فقد كان حارس إشبيلية الاحتياطي الذي اشتراه بالإعارة من نادي جيرونا الإيطالي. كانت المباراة هي مباراة الإياب أمام فريق كلوج الروماني في الدوري الأوروبي، وكعادة غيره من الفرق، كان إشبيلية يترك المباريات غير المهمة لحارسه الاحتياطي الذي كان وقتها بطل المغرب ياسين بوو. كان إشبيلية سيتأهّل بفارق الأهداف خارج الأرض بعد تعادله في مباراة الذهاب بهدفٍ لمثله، ولكن في الدقيقة 87 سدّد أليكساندرو بون كرةً ضعيفةً ربما كان هو أكثر من تفاجأ بدخولها المرمى بعد مرورها من ياسين بونو بطريقةٍ غريبة. بونو يُوطأ رأسه تحت صافرات استهجان الأندلسيين في إشبيلية، ولعله أدرك أن إعارته، ومعها مسيرته في الأضواء قد انتهت قبل أن تبدأ، ولم يلعب سوى 45 دقيقة في الدوري الإسباني ومباراتين في كأس إسبانيا ضد فرقٍ من الدرجة الأربعة، فهل من عاقلٍ سيدفع مالاً في حارسٍ مهزوزٍ مثله؟
ولكن تنبّه الحكم في إعادة الهدف إلى وجود لمسة يد، وانقلبت الأقدار بفضل حكّام الفار. تأهّل إشبيلية بصعوبة ولكنه أكمل طريقه ليفوز بالبطولة في ذاك الموسم، وتحوّل ياسين إلى بطل نادي بلاد الأندلس (طبعاً لم يكن يعرف وقتها أنه سيصبح بطلاً أندلسياً بحقّ بإقصائه الإسبان والبرتغاليين)، وكما يقول مدرّب الحراس في فريق إشبيلية خوسي لويس سيلفا: "إنها قصةٌ غريبة لو حاولت أن تتخيّلها. كل ما مرّ به ياسين من نموّ يرجع شيءٌ من فضله إلى الفار، ولكن الفضل الأكبر في ذلك يرجع له هو."
من حارس طوارئ إلى مصاف العالمية
ابتسمت الأقدار مرةً أخرى لياسين عندما أُصيب حارس إشبيلية الأساسي توماش فاتسليك بعد 10 أيام من مباراة كلوج، ليتعملق ياسين من خلف الأبواب المغلقة في موسم الجائحة، فتصدّى لضربة جزاء للاعب الوولفز نيفيز، وقدّم أداء العمر أمام مانشستر يونايتد، وقهر طليان روما، وتغلّب على روميلو لوكاكو إنتر ميلان في النهائي الذي تسيّد إيطاليا في ذاك الموسم ولكن استعصى عليه ابن المغرب ياسين بونو.
ولك أن تتخيّل عزيزنا القارئ أن هذا الأداء العظيم كُوفئ بعقدٍ جديدٍ ومقعدٍ أساسي لـ"حارس الطوارئ" بعد حمل إشبيلية للفوز بكأس الدوري الأوروبي. واستمر ربيع ياسين للموسم الذي يليه، الذي فاز فيه بجائزة زامورا لأفضل حارسٍ في الدوري الإسباني باستقباله أقل عدداً من الأهداف في الدوري.
وُصف ياسين الإنسان وراء أكفّ الحارس العملاق بأنه إنسانٌ هادئ للدرجة التي أثارت دهشة مدرّب الحراس والحارس الثاني في إشبيلية ماركو ديمتروفيتش الذين قالوا أنهم حاولوا أن يكونوا مثله. ولا عجب في ذلك، فلعل قبساً من هذا الهدوء والصلابة كان بادياً لمن شاهدوه وعرفوه لأول مرة في مونديال قطر.
ياسين كان دائماً هكذا منذ ولادته في مدينة مونتريال الكندية لأبٍّ يعمل بروفيسور فيزياء في الجامعة. تعلّم ياسين خمس لغات وهو كان من صغره مشجّعاً مولعاً بمنتخب الأرجنتين حتى أن لغته الإسبانية يغلب عليها لكنة أبناء بلاد التانغو.
اشتُهر ياسين بين من زاملوه ودرّبوه أيضاً بأدبه وموهبته، سواءً في إشبيلية أو في أتلتيكو مدريد حيث بدء مسيرته الأوروبية باللعب مع الفريق الثاني وتدرّب مع الفريق الأول في موسم 2013-2014 الذي ظفر فيه أتليتكو بلقب الدوري الإسباني.
هدوء ياسين ساعده كثيراً في تجاوز بدايته الصعبة مع نادي إشبيلية، وقد استفاد أيضاً من موسم الجائحة واللعب وراء الأبواب المغلقة، إذ استطاع أن يُخفي قلقه وافتقاره للثقة بنفسه بحسب أندريس بالوب مدرّب الحراس السابق في إشبيلية: "أظنٌّ أنه نمى كثيراً من الناحية السيكولوجية، وعندما أتت الفرصة ليحلّ مكان فاتسليك، استفاد كثيراً من التوقيت إذ أن الوقوف بين الخشبات الثلاث دون ضغط الجماهير في نادٍ تحت ضغط المنافسة على الألقاب. لقد أصبح أقوى كثيراً لهذا السبب."
ويرى مدرّب الحراس الحالي أن ياسين "لم يحظَ بالفرص التي احتاجها في السابق ليثبت موهبته." وموهوبٌ هو بالفعل، حتى برأي الخبراء، إذ يرى بالوب أنه اليوم أحد أفضل 10 حراسٍ في العالم بتمتّعه بالعديد من المزايا كشجاعته في التقاظ الكرات في الهواء وحسن تمركزه وقراءته للمباراة، وتميّزه في الهجمات المنفردة، هذا غير قدرته على اللعب بالكرة بقدميه، وهي أحد أهم السمات المطلوبة في الحراس في كرة القدم الحديثة، وخصوصاً في بلدٍ مثل إسبانيا.
وفوق كل ذلك، يُعرف ياسين بقدرته الاستثنائية في التصدّي لضربات الجزاء، وقد شهد العالم كله على ذلك. تصدّى ياسين في مسيرته لضربة جزاء من هالاند، وكان أول حارسٍ يمنع لاعب ريال سوسيداد أويارزابال من التسجيل من علامة الجزاء، وتصدّى أيضاً لضربة جزاء من كارلوس سولير اللاعب الذي سجّل ثلاث ضربات جزاء في مباراةٍ واحدة أمام كورتيوس حارس ريال مدريد في مباراةٍ خسر فيها الملكي بنتيجة 4-1 أمام الخفافيش.
بعد فوز المغرب على إسبانيا قال ياسين أنه اعتمد على الحظ وعلى حدسه في التصدّي لضربات الجزاء، باستثناء ضربة الجزاء الأولى الذي سدّدها زميله السابق في إشبيلية بابلو سارابيا. ولكن سيلفا يرى أن تصريحات ياسين ليست سوى علامةً أخرى على تواضعه، بل إن مثابرته، وليس الحظ، هو ما كفل له كل ما حقّقه من نجاح.
"هذا ما قاله. لم أرَ يوماً علامة غرورٍ على ياسين، ولا أظنّ أنني سأرى ذلك. يختصّ ياسين بقيمٍ يندر وجودها في عالم الكرة. لقد أمضى قرابة العام من دون أن يلعب مباراةً واحدة، ولا أذكر أنني رأيته يتذمّر أبداً، بل إنه يساعد ثوماس دائماً. أظنّ أنه أكثر حارسٍ كان متقبّلاً لفكرة لعبه لحارسٍ احتياطي من بين جميع الحراس الذين درّبتهم في مسيرتي. كان يعرف أن فرصته ستأتي وكان هذا ما حصل."
ولم يختلف رأي مدرّبه السابق في إشبيلية لوبيتيغ كثيراً: "إنه هادئٌ جداً، ناضجٌ جداً، متوازنٌ جداً. إنه قدوةٌ يُحتذى به، عندما لا يلعب فإنه يبقى هادئً ويركّز على مساندة زملائه. العمل معه أمرٌ ممتع. إنه متواضع، والتواضع عادةٌ علامةٌ على الذكاء. لقد أصبح الحارس الأساسي بنهاية عامه الأول، ومن ثم نال جائزة زامورا، واليوم ها نحن نتحدّث عنه جميعنا، لقد قطف ثمار اجتهاده وأنا سعيدٌ جداً من أجله."
وبالفعل أصبح ياسين اليوم الشغل الشاغل لقلوب وعقول متابعي الكرة. ياسين كان معجزة المونديال بحقّ، فلم يدخل شباكه سوى هدفٌ واحد بالخطأ أمام منتخب كندا مسقط رأسه في المباريات الأربع التي لعبها (لم يلعب ياسين أمام بلجيكا بسبب الإصابة)، وحصل على جائزة رجل المباراة أمام كلٍّ من إسبانيا والبرتغال، وقام بخمس تصديّات حتى اللحظة في المونديال، غير ثلاث ضربات جزاء تصدّى لها بنجاح أمام إسبانيا. لم تستقبل شباك ياسين سوى هدفٍ وحيدٍ في آخر 7 مبارياتٍ رسميةٍ لعبها، ويعتلي أسود الأطلسي صدارة أفضل دفاعٍ في البطولة بهدفٍ وحيد.
أصبح ياسين اليوم الشغل الشاغل لقلوب وعقول متابعي الكرة. ياسين كان معجزة المونديال بحقّ
لا ندري ما سيحصل اليوم في مباراة المغرب أمام فرنسا، ولكننا نعرف أن قصة المغرب وقصة ياسين كانت هي أجمل مفاجأةٍ لنا نحن العرب في مونديال قطر، ولا خاتمة أفضل لهذه القصة ولفصول مونديال قطر من أن يواجه ياسين فريق طفولته الأرجنتين في المباراة النهائية في ملحمة الخواتيم بين ميسي وبين ياسين.