هُزمت ثورة يناير والقوى السياسية التي تحلقت من حولها؛ نوع من الهزيمة الذي انتهى إلى استسلام غير مشروط. الأفضل تنظيمًا والأكثر تماسكًا، أي جماعة الإخوان المسلمين، تعرضت للقدر الأفدح من العنف، أما القوى العلمانية فتطلبت مستويات أقل منه حتى تصل السلطة إلى نفس النتائج. بالإجمال، تجد القوى السياسية منزوعة القدرة على الفعل ولا حتى الخيال، وأقصى ما تهدف إليه هو الحفاظ على ما تبقى من هياكلها المادية والمعنوية من التداعي بشكل كامل. الأولوية تعطى للسلامة المباشرة للأفراد، ومن ثم يأتي الدفاع عن السردية كمعركة دائمة تلقن في النطاقات الخاصة إن تعذرت في المجال العام.
في ظل الهزيمة شبه الكاملة، يضيق الأفق أمام القوى السياسية المصرية، لتقتصر على ملف الاعتقالات
في ظل الهزيمة شبه الكاملة، يضيق الأفق أمام القوى السياسية المصرية، لتقتصر على ملف الاعتقالات. يوظف النظام مدى واسعًا من الآليات لتعميم الرعب وإرباك معارضيه وكذا زعزعة تماسكهم النفسي. البوابات الدوارة، أي عمليات التجديد غير محددة المدة للحبس الاحتياطي مع الإفراج الدفتري واستكمال الحبس بالاستناد إلى قضايا جديدة هي إحدى هذه الآليات. تلك المسارات الدائرية للوقت تفرغه من معناه بالنسبة للمعتقلين وذويهم. الاختفاءات القسرية، ووقوعها في المسافة الرمادية بين الرسمي وغير الرسمي، تجعل إمكانية التوقع شبه مستحيلة. الاختفاء كروتين يسبق الظهور في النيابات تزعزعه الاختفاءات المفتوحة، تلك التي لم يظهر ضحاياها أبدًا أو تظهر جثثهم المشوهة بآثار التعذيب حتى الموت. الوضع الصوري للقانون والإجراءات، والخرق الدوري لكل قاعدة من جهه القائمين على القانون أو تنفيذه بحذافيره إلى حد العمى، يمحو منطق القاعدة. العشوائية المتعمدة في عمليات الاعتقالات، وكذا العشوائية في الإفراجات المفاجئة، وفي المسافة بينهما الميكانيكية التي تحكم الإجراءات البيروقراطية. كل هذه التناقضات المتعمدة مع استحالة القياس أو التوقع وغياب القاعدة، ترغم ضحاياها المباشرين والمجتمع الأوسع على الاستسلام.
إلا أن السلطة لا تتوقف هنا، فتقنية "الساخن والبارد" تعطي نتائج مضاعفة. ففي مقابل الترويع بالاعتقالات، يلوح النظام بالعفو الرئاسي. في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2017 شكلت لجنة للعفو ضمت عددًا من قيادات المعارضة المصرية، وكانت مهمتها تقديم قوائم بأسماء سجناء الرأي المستحقين للعفو. بحسب كمال أبو عيطة، عضو اللجنة ووزير القوى العاملة، لا توجد آلية لتلقي الطلبات أو أسماء المعتقلين، بل ولا ويوجد مقر للجنة، فيكتفي أعضاؤها بالتواصل عبر مجموعة "واتساب". ولا يعني هذا بالضرورة أن السلطة تسعى لأن تكون اللجنة صورية، بل بالأحرى ترسيخ معامل الاعتباطية في قرارات الإفراج كما في قرارات الاعتقال، أي أن تكون اللجنة نفسها معلقة بين الرسمية وغير الرسمية.
داخل المتاهة البيروقراطية للعفو، يعمق تعدد الوساطات واللجان الشعور بالتيه. فمع وجود اللجنة الرسمية/غير الرسمية، يبرز اسم النائب البرلماني محمد أنور السادات كطرف آخر يقوم بتقديم طلبات العفو وأعداد قوائمها، وكذا التوسط بين الأجهزة الأمنية وأفراد محسوبين على المعارضة في الخارج، تمهيدًا لعودتهم لبلدهم. تتوارى اللجنة تمامًا من المشهد، فيما يتصاعد الدور غير الرسمي للسادات. لكن المصداقية التي تكتسبها جهوده سرعان ما يزعزها اختفاء الخبير الاقتصادي أيمن هدهود، ومن ثم مقتله. إذ كان هدهود عضوًا بارزًا في الحزب الذي يترأسه السادات نفسه وواحد من معاونيه.
فجأة يظهر لاعبون جدد؛ المرشح الرئاسي حمدين صباحي والمخرج خالد يوسف المحسوب على تياره والصحافي والسياسي والسجين السابق خالد داود. يحضر جميعهم "إفطار الأسرة المصرية" مع الرئيس السيسي قبل أيام، ومن ثم يعلنون عن خروج عدد من المعتقلين بعفو رئاسي، وعن وعد بإعداد المزيد من القوائم.
في كل تلك التبدلات، يظل الثابت هو توريط الوسطاء أو المعارضين في مهمة إعداد القوائم، وبشكل ضمني يغدو ملف المعتقلين معضلتهم هم لا معضلة السلطة. مع إزاحة المسؤولية أواللوم على هؤلاء، تصاغ مشكلة الاعتقالات التعسفية وكأنها مشكلة تقنية لا سياسية منهجية، بمعنى أنها مشكلة يمكن تصويبها بإعداد قوائم بأسماء من اُعتقلوا على سبيل الخطأ. وبحسب تلك الصياغة الملتوية للمشكلة، لا يتم الاعتراف فقط بشرعية إجراءات النظام بالعموم، بل وأيضًا التواطؤ على التنكيل بمن لا تظهر أسماؤهم في تلك القوائم.
داخل المتاهة البيروقراطية للعفو، يعمق تعدد الوساطات واللجان الشعور بالتيه
توحي الإشارات المتكررة لمفردات الوساطة والحوار بحياد الفاعلين في ملف العفو أيضًا، ما يعني تعمية على حقيقة بسيطة هي أن كل هؤلاء لا يمكنهم ممارسة أي شكل من الوساطة أو التمثيل سوى بموافقة إن لم يكن اختيار مسبق من السلطة. وعبر الخيارات، لا يحدد النظام فقط من يمثل المعارضة، بل يخلق تراتبية داخلها، ومنظومة للتباعد والتراقب يكون هو نفسه مرجعيتها وخط قياسها الرئيسي.