صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب بعنوان الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس عام 2019: الحقل السياسي والسلوك الانتخابي وحراك النخب، ضمن سلسلة دراسات التحول الديمقراطي، من تأليف أسماء نويرة وآخرين، وتحرير مهدي مبروك. يقع الكتاب في 624 صفحة، ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.
مثّلت الانتخابات التشريعية والرئاسية التي شهدتها تونس في عام 2019 منعطفًا حاسمًا في تاريخ تجربة الانتقال الديمقراطي، سواء في سياقاتها أو نتائجها التي تحكّمت في ما ستؤول إليه الأمور لاحقًا: رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي، وتراجع حزب "نداء تونس" الذي فاز في الانتخابات التشريعية لعام 2014، وعودة "حركة النهضة" إلى الصدارة رغم تراجع رصيدها الانتخابي، يليها مباشرة حزب "قلب تونس" الذي تشكّل على عجل مستفيدًا من استثمار العمل الخيري والإعلامي لمؤسسيه، وتمكُّن أحزاب الوسط من استرجاع بعض بريقها، واختفاء أحزاب اليسار من المشهد البرلماني تقريبًا.
مثّلت الانتخابات التشريعية والرئاسية التي شهدتها تونس في عام 2019 منعطفًا حاسمًا في تاريخ تجربة الانتقال الديمقراطي، سواء في سياقاتها أو نتائجها التي تحكّمت في ما ستؤول إليه الأمور لاحقًا
يعمد الكتاب إلى تحليل تلك المناخات التي طبعت تلك النتائج، إضافة إلى الخطاب الانتخابي والإعلامي الذي رافق تلك المحطة، محللًا في الوقت ذاته النتائج ودلالاتها الثرية والعميقة. ولا يغفل أيضًا صعود الرئيس قيس سعيد إلى الرئاسة، وهو المرشح القادم من خارج الثقافة السياسية التقليدية للنخب والأحزاب التونسية، والذي سيظل فوزه يطرح أسئلة حول "جاذبيته" وقدرته الفائقة على استغلال أمراض الديمقراطية التونسية، بعد أن استطاع أن يقدم عرضًا انتخابيًّا مغايرًا لما ألفه الناخبون في سياق اقتصادي واجتماعي شديد الصعوبة.
الإطار القانوني للانتخابات: الخصائص والتداعيات
يتناول محمد شفيق صرصار القانون الانتخابي الذي لا يمثّل، بحسب رأيه، مجرّد قواعد تقنية محايدة، بل يعكس خيارات سياسية تتعلق بحق الاقتراع وطبيعة التمثيل النيابي والعدالة الانتخابية والبحث عن الاستقرار السياسي.
يسلك الباحث منهج التحليل القانوني المتمثل في دراسة النصوص القانونية وتحديد الحكم القانوني المطبّق، مع ما قد يرتبط بالتطبيق من صعوبات، واعتماد المقارنة بين أحكام الإطار القانوني والقواعد والمعايير الدولية والممارسات الفضلى المتبلورة اليوم. وأخيرًا، يحيلنا الباحث إلى فقه القضاء وتقارير الملاحظة الدولية والوطنية لمعرفة الصعوبات التطبيقية التي ربما تكون قد رافقت النصّ القانوني.
أما محمد الإمام فبحث في "المناخات الانتخابية: المظاهر والخفايا والديناميات"، فلا يخفي طموحًا حذرًا، وهو يهتم بفهم المناخات والديناميات التي صاحبت المواعيد الانتخابية لعام 2019 وتفسيرها بالرجوع إلى استراتيجيات الفاعلين والتعديلات التي يجرونها عليها وفق مقتضيات السياق المتغيرة.
عمل الباحث على رصد استراتيجيات الفاعلين السياسيين المعنيين بالمحطات الانتخابية لعام 2019، وكيفية تغيّر الأهداف والمصالح وتأقلمها وفق مقتضيات السياق منذ عام 2011. ثم عمل على تفسير بروز دخلاء Outsiders سياسيين "جُدد"، حاولوا الخروج على النمطية، واستغلوا نفور التونسيين من السياسة والسياسيين وتواصل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ليقدّموا عرضًا سياسيًا شعبويًا، أي مبنيًّا على التجريح في النخب السياسية "التقليدية" من ناحية، وعلى التكلم باسم الشعب وهمومه من ناحية أخرى. وحاول الباحث أيضًا فحص استراتيجية الفاعلين في هذا التنافس بين القوى السياسية "النمطية" من جهة، والقوى "غير النمطية" من جهة أخرى، وكيف أثّر تغيير روزنامة الانتخابات في تلك الاستراتيجيات.
يقدّم ناجي العرقوبي "قراءة في نتائج الانتخابات التشريعية التونسية في عام 2019: إعادة تشكّل المجال السياسي"، من خلال اعتماد مناهج بحث الجغرافيا الانتخابية التي تمكّن من تحليل نتائج الانتخابات بأبعادها ومدلولاتها السياسية في العلاقة بالمجال الجغرافي خصوصًا، وتحديد منطق توزّع أنماط التصويت في الحواضر والقرى والأرياف، على أمل أن يتم استنادًا إلى ذلك اختبار مقولة "إعادة إنتاج" المجال السياسي وتغيير قواعد حيازة السلطة؛ لأجل ذلك، عرض الباحث خصوصيات النتائج في مختلف الدوائر الانتخابية، موضحًا صلاتها بالبعد الجغرافي المحلي والجهوي والوطني، مبرزًا في الوقت نفسه دلالات تَوزّع الأصوات التي تحصلت عليها الأحزاب أو القوائم ... إلخ.
المرأة والانتخابات
أما الباحثة أسماء نويرة فتناولت في بحث بعنوان "المرأة والانتخابات: الانتخابات التونسية عام 2019 من منظور النوع الاجتماعي"، الانتخابات من منظور النوع الاجتماعي ومشاركة المرأة فيها ورهانات حضورها ضمن قوائم انتخابية وفق مبدأ التناصف. وانطلقت الباحثة في تحليلها من مسلَّمتين: الأولى ما تتيحه الأنظمة الديمقراطية للنساء من تمثيلية عالية، على الرغم من أن سلطتهن السياسية الحقيقية تبقى ضعيفة. أما الثانية فهي انخفاض مستوى تمثيل المرأة في بدايات تجارب الانتقال الديمقراطي الذي سرعان ما يجري تداركه ليتعزّز شيئًا فشيئًا، وتزامنًا مع توسّع دوائر الحقوق والحريات العامة؛ إذ تعتبر مشاركة المرأة السياسية، على المستوى النظري، مقياسًا لترسيخ الديمقراطية. وخلصت أيضًا إلى أنّ متغير الجندر لم يكن حاسمًا في هذه الانتخابات، على الرغم من الحضور البارز له "قضيةً" أو فاعلًا.
الأحزاب السياسية وتحوّلات الخريطة السياسية
وتحت عنوان "الأحزاب السياسية وتحوّلات الخريطة السياسية خلال انتخابات عام 2019"، حلّل منير الكشو، تداعيات نتائج هذه الانتخابات على المشهد السياسي العام في تونس. وحاول أيضًا تفسير فشل الكثير من الأحزاب السياسية التونسية في الفوز في الانتخابات الرئاسية. أما في الانتخابات التشريعية فكان رصيد القوائم غير الحزبية ضئيلًا. وقدّم الكشو فرضيات عدة من أجل فهم ما حدث، لعل أهمها تلك التي تعلّقت بالقانون الانتخابي القائم على التمثيل النسبي والاحتفاظ بأكبر البقايا، مع غياب العتبة الانتخابية.
الديمقراطية لا تترسخ إلا إذا قامت الأحزاب القوية والفاعلة بدورها المعهود، من تأطير المواطنين وتعبئتهم سياسيًا، من أجل مشاركة واعية في الشأن العام
يرى الكشو أنّ الديمقراطية لا تترسخ إلا إذا قامت الأحزاب القوية والفاعلة بدورها المعهود، من تأطير المواطنين وتعبئتهم سياسيًا، من أجل مشاركة واعية في الشأن العام. وخلص إلى استحضار الآثار الممكنة للنظام السياسي في تونس في نوعية أداء مؤسسات الدولة وظائفها وأدوارها وطبيعة العلاقة المستحدثة بين مختلف الفاعلين السياسيين وأجهزة الحكم.
أما أمين بن مسعود فتوقّف، في "ما بين مقتضيات الوظيفة وانحرافات التوظيف: أيّ أعلمة للانتخابات التشريعية والرئاسية؟"، عند تحليل الخطابات الإعلامية التي تشكّلت في سياق انتخابات عام 2019 والتعامل معها باعتبارها مخبرًا مفصليًا لاستكناه مدى تملّك المؤسسات الإعلامية مهماتها وكيفية أدائها أدوارها ووظائفها الرمزية. ولم يغفل الباحث أيضًا البحث في تأثير وسائل الإعلام في مسار هذه الانتخابات.
وتوصّل إلى جملة من النتائج، لعل أهمها أنّ الصحافة المكتوبة طغت عليها الصحافة المكتبية أكثر من الصحافة الميدانية. ومهما كان اختلاف المسافات بين وسائل الإعلام والمترشحين في الانتخابات التشريعية والرئاسية، فقد أكّد بن مسعود أنّ "تعديلًا ذاتيًا نقديًا" عميقًا في دور وسائل الإعلام في المسارات الانتخابية، انبثق من صلب هذه الوسائل ذاتها.
وتحت عنوان "التوافق والتحالف في الانتخابات: مشكلات المشهد السياسي خلال مسار الانتقال الديمقراطي"، تناول حافظ عبد الرحيم التحالفات السياسية التي لازمت المشهد السياسي التونسي منذ الثورة، وتحديدًا بعد ما أفرزته الانتخابات التشريعية من نتائج. وأنزل هذه التحالفات المعقودة بين الفاعلين السياسيين في سياق مشهدٍ سياسي يتشكّل، ويعيد تشكيل نفسه، مع انطلاق كل تجربة انتخابية تتسم عادةً بالتجاذبات المختلفة المصحوبة بجملة من الرهانات والمنافسات الحادّة.
ومع نزوع المشهد الحزبي في تونس إلى التشظّي وإعادة التشكّل من خلال ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم يكن في إمكان أيّ طرف، مهما كان حجمه الانتخابي، أن يشكّل حكومة بمفرده، ولا حتى بالحد الأدنى من الأحزاب المتآلفة، خصوصًا في ظل الحضور المكثّف للتقاطعات الأيديولوجية التي ما زالت تفعل فعلها في توجّهات الأحزاب واختياراتها. طرح هذا السياق الجديد على الأحزاب، الممثّلة في مجلس نواب الشعب، رهاناتٍ سياسيةً بالغةَ الأهمية قد تدفعها إلى تنازلات متبادلة.
المستقلون والمجتمع المدني
اعتنى الباحث محرز الدريسي في بحثه "المستقلون والمبادرات المواطنية والانتخابات"، بمساهمة المنحى الاستقلالي في تجديد أشكال التنافس الانتخابي وتطوير الديمقراطية، إضافةً إلى صيغ المشاركة في الشأن العام، وإثراء الثقافة السياسية، خصوصًا أنّ المستقلين حرصوا على حق الممارسة السياسية على نحوٍ مغاير ومختلف. وتوقّف الدريسي عند الفجوة بين الزخم السياسي والإعلامي الذي أحدثته الأحزاب من جهة، ونتائجها الانتخابية الضعيفة المباغتة من جهة أخرى.
مع نزوع المشهد الحزبي في تونس إلى التشظّي وإعادة التشكّل من خلال ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم يكن في إمكان أيّ طرف، مهما كان حجمه الانتخابي، أن يشكّل حكومة بمفرده
وضمن بحث بعنوان "المنظمات الوطنية والمجتمع المدني والاتحاد العام التونسي للشغل والانتخابات"، عرض الباحث عبد السلام الككلي مراحل وخطوات مرافقة الجمعيات المدنية المهتمة بالشأن الانتخابي والمنظمات الوطنية المسار الانتخابي في حلقاته المتسلسلة. ووصف عمله هذا بـ "الحيوي"، لأنّ هذه الجمعيات تابعت مراحل عملية التسجيل كلها وإنجاز الانتخابات في الآجال الدستورية، وقد ساهمت بأشكال عديدة في مراقبة سلامة العملية الانتخابية وشروط التنافس النزيه بين المترشحين. وبيّن دور هذا المجتمع المدني، بمكوّناته ومشاربه كلها، في ترتيبات الاستعداد للانتخابات في مجالات تكوين الناخبين وتحسيسهم بواجباتهم وحقوقهم، إضافةً إلى تدريب الملاحظين على رصد التجاوزات ومظاهر التقصير.
أما الباحث طارق الكحلاوي فقد عرض، تحت عنوان "انتخابات عام 2019 وتشكيل الحكومة: تعقيدات المسار وغموض المآلات"، المسارات الملتوية والمضنية لتشكيل الحكومة، بُعَيد صدور نتائج الانتخابات. فوقف على بروز "القوى الجديدة" وخفوت دور "نخبة ما بعد 2011"، في انتخابات عام 2019، مولِيًا في الوقت ذاته عناية خاصة لتأثير الذاكرة السياسية المجروحة في مواقف وسلوك مختلف الأطراف السياسية التي فقدت الثقة في ما بينها، تقريبًا.
وليقف الباحث على نتائج دقيقة، استند إلى تحليل مسار التفاوض الذي خاضته الأطراف السياسية وآلياته، إضافةً إلى فهم استراتيجيات التموقع الحزبي في الحكم والمعارضة معًا، وكيفية تشكّل التحالفات وفشلها خلال كامل المسار الذي مرّ به تكوين الحكومة.