"أنا بموت فيك"، من منا لم تَرِد على لسانه هذه العبارة؟ من منا لم تخرج منه في لحظة تعبير عِشقي خالص لمحبوبه الذي يُحبه وحبّه له يصل إلى درجة الفناء؟ أجل، إنّ هذه العبارة تخرج من أفواهنا في لحظات العشق الخالص بعفوية كاملة، وكأنّها تُريد أن تُخلِّص الحب من تلك الافتراضات التي تُريد أن تجعل منه إيجابية كاملة، والتي تُريدُ أن تُجرِّده من سلبية المعاناة ليغدو شعورًا إيجابيًا بالمطلق؛ يُصيبُ القلب الإنساني فيورثه وهجًا كاملًا وإشراقًا تامًا بعيدًا عن أي قلق وغيرة وحزن ومعاناة.
إنّ تلك الافتراضات التي تُريدُ أن تمحو في الحبّ جانبه المؤلم بوصفه معاناة –قبل كلّ شيء- هو ما جاء كتاب "معاناة إيروس" (دار معنى للنشر والتوزيع، ترجمة بدر الدين مصطفى) للفيلسوف الكوري بيونغ- شول هان لينسفها، فهذا الكتاب يأتي بأطروحة من أجل الدفاع عن سلبية الحبّ، عن حقّ المحبّ في البكاء والحزن والقلق والغيرة، وعن حقّ العاشق في الدخول في طقس معاناته حدّ الأقاصي، حدّ الذوبان في المعشوق والموت فيه.
يدافع مؤلف كتاب "معاناة إيروس" عن سلبية الحبّ، عن حقّ المحبّ في البكاء والحزن والقلق والغيرة، وعن حقّ العاشق في الدخول في طقس معاناته حدّ الأقاصي
وإنّ إيروس في عنوان الكتاب يأتي ليشير إلى إله الحبّ والرغبة والجنس عند اليونان، فإيروس يرد في الكتاب في إشارة صريحة إلى معنى الحب الذي يُجسِّده، وإلى الرغبة الجنسية المتأججة التي تأتي مقترنة دائمًا بهذا الحبّ وملازمة له.
وإنّ شول يقوم ببناء أطروحته الرئيسة في الكتاب على افتراض أنّ مأساة الحبّ في المجتمعات المعاصرة لا تتمثّل في الوفرة في وجود الآخر الذي يستحقّ الحبّ، بقدر ما تتمثّل في التأكّل المستمرّ لصورة الآخر عند المحبّ نفسه.
يفترض شول في كتابه أنّ مأساة إيروس "رمز الحبّ والرغبة" في المجتمعات المعاصرة هي مأساة تتجلى في غياب الصورة السلبية للآخر "المعاناة" عن ذهنية المحبّ، وفي حضورها الدائم كصورة إيجابية ترتبط بالحبّ الناعم السلس المرن السهل الوصول والبعيد عن كلّ سلبية ممكنة، فبحسب شول: "إنّ الإيروس هو علاقة مع الآخر تقع خارج دائرة الإنجاز والأداء والقدرة. تُمثّل القدرة على عدم القدرة النظر السلبي له، سلبية الآخر أي سحره، الذي يُفلت من الإحاطة الشاملة به، هي التي تُشكّل خبرة الإيروس: يحمل الآخر الغيرية بوصفها جوهرًا له. وهذا هو السبب في أننا نبحث عن تلك الغيرية داخل العلاقة الأصلية المطلقة لإيروس، وهي علاقة يستحيل ترجمتها إلى علاقات سلطوية".
ويُمكن القول بأنّ شول يقصد في كلامه السابق بأنّ مأساة إيروس الفعلية في المجتمعات المعاصرة تتمثّل في سعي المحبّ لإقامة علاقة الحبّ مع الآخر الذي يُحبّه على أساس سلطوي، حيثُ يسعى في إطار تطلُّعه إلى علاقة مريحة وخالية من أي معاناة معه إلى الإحاطة الشاملة به، إلى تملكه ومعرفته واستيعابه بتفاصيله الكاملة والتامة، أي أنّه يسعى إلى تجريد الآخر الذي يُحبه من كلّ غموض، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تآكله تدريجيًا واختفائه كليًا.
وإنّ شول يُورد –ضمن الإطار السابق- بأنّ أحد الأسباب الرئيسية لتآكل صورة الآخر المحبوب عند محبه، في مجتمعات الاستهلاك المعاصرة، هو قيام المحبّ باختصار محبوبه في صورته ككائن جنسي، واختزاله في أبعاده الجسمية والجنسية، حيثُ يورد قائلًا: "عندما يُنظر إلى الآخر على أنّه كائن جنسي، تأخذ المسافة الأولية في التآكل؛ يدعي مارتن بوبر أنّ هذه المسافة هي بمثابة "مبدأ الموجود الإنساني" على نحو مطلق، كما تمثّل الشرط المتعالي لأية غيرية قائمة على الإطلاق. "المسافة الأولية" تمنع الوجود الآخر من التدهور ليغدو شيئًا... إنّ المسافة الأولية تُبرز المنزلة المتعالية للآخر في آخريته، وعلى هذا النحو تمامًا يُمكن وضع فكرة الآخر في المكانة اللائقة بها".
سعي المحبّ إلى خلق علاقات مريحة وخالية من أي سلبية ممكنة مع الآخر الذي يُحبّه، سواء عبر السعي إلى تملكه أو عبر اختزاله في أبعاده الجنسية؛ هو سعي يؤدي إلى اختزال الحبّ ليُصبح محض موضوعًا للاستهلاك
فشول يؤكّد عبر كلامه السابق بأنّ سعي المحبّ إلى خلق علاقات مريحة وخالية من أي سلبية ممكنة مع الآخر الذي يُحبّه سواء عبر السعي إلى تملكه أو عبر اختزاله في أبعاده الجنسية؛ هو سعي يؤدي إلى اختزال الحبّ ليُصبح محض موضوعًا للاستهلاك، يسعى عبره المحبّ إلى ضمان علاقة مريحة مع الآخر عبر كلّ الطرق الممكنة، حتى لو كان ذلك عبر الإلغاء التام له والمحو الكامل لصورته ككائن متعدد الأبعاد.
وبحسب شول فإنّ تخليص إيروس –بما هو رمز الحبّ- من مأساته في مجتمعات الاستهلاك الحداثية المعاصرة لا يُمكنه أن يحدث إلا عبر وقف تآكل صورة الآخر عند المحبّ، وذلك من خلال استعادة سلطة إيروس بما هي تعبير عن السلبية الممثلة بالعجز وقلة الحيلة أمام كيان الآخر، بعيدًا عن مسألة تأكيد الذات والتمركز حولها.
وإنّه بحسب شول، فإنّ هناك ضرورة لإعادة تعريف الحبّ في صورته السلبية كمعاناة، كأزمة يدخل فيها المحبّ مع الآخر الذي يُحبّه في طرق الموت، فيُفني بعضًا من ذاته فيه، ويتخلى عن فكرة الاستحواذ عليه، ويرتضي الدخول معه في علاقة مقلقة لا تسودها الإيجابية المطلقة بالكامل.
أخيرًا، يُمكن القول بأنّ شول يُحاول في كتابه "معاناة إيروس" وضع مقاربة نظرية يُدافع فيها عن سلبية الحبّ، فهو يرى أنّ هذه السلبية هي الطريق المثلى لاستعادة الحبّ كعلاقة حقيقية مع الآخر، تتمازج فيها مشاعر الشوق والتوق والرغبة بمشاعر الحزن والقلق والخوف، فهذه السلبية لا غنى عنها في الخبرة الإيروتيكية؛ تلك الخبرة التي يُمكن اختصارها في العبارة القائلة: "لا يوجد حبّ إذا لم يكن مثل الموت داخلنا".