شيئان لم يحقّقهما فيلم "كل الحيوانات الصغيرة" (All The Little Animals) للمخرج البريطاني جيريمي توماس وبطولة جون هرت وكريستيان بيل: أرباح مهمة حيث قدرت إيرادات الفيلم بـ26,558 دولار فقط، ونجاح جماهيري ملحوظ. غير أن العديد ممن شاهد الفيلم لم يكن يعلم أنه مقتبس رأسًا عن رواية صغيرة مذهلة للبريطاني ووكر هاميلتون صدرت سنة 1968، ولكن بعد أشهر قليلة يموت الكاتب وتهمل الرواية لوقت طويل حتى يظهر فيلم جيريمي توماس ويعيد النبش في عبقرية هذه النوفيلا، التي استطاعت أن تكثف كل تلك النظرة الفجائعية للكاتب من واقع الحداثة السوداوي. لكن الفيلم أيضًا أصابته لعنة مصير الحيوانات الصغيرة.
النوفيلا: النوع الهامشي الضال
تمثل النوفيلا نوعًا روائيًا نادرًا وصعبًا وهو في مرحلة بينية بين القصة القصيرة والرواية، لكنه أدخل في باب الرواية منه في القصة القصيرة، وحققت بعض الأعمال فيه نجاحًا كبيرًا لعل أهم من برز فيه الكاتب النمساويّ شتيفان زفايغ (1881-1942). وقد جربه عدد غير قليل من الروائيين على سبيل التنويع مثل كافكا في "المسخ"، وفيليب كلوديل في "حفيدة السيد لين"، وروبرت لويس ستيفنسن في "دكتور جيكل ومستر هايد"، وباتريك زوسكيند في "الحمامة"، وهرمان ملفل في" بارتلبي النساخ"، وفالنتين راسبوتين في روايته "في المستشفى"، وكارلوس فوينتس في "أورا". أما عربيًا، فيمكن إدراج الكثير من أعمال غسان كنفاني ضمنه، و"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم، و"الطوق والإسورة" ليحيى الطاهر عبد الله، و"المد لسميحة خريس"، وبعض أعمال ابراهيم أصلان.
تمثّل النوفيلا نوعًا روائيًا نادرًا وصعبًا وهو في مرحلة بينية بين القصة القصيرة والرواية، لكنه أدخل في باب الرواية منه في القصة القصيرة
غير أن ندرة هذا النوع وجودته عربيًا اليوم تجعل من قراءة المزيد منه رهين الترجمة أكثر من الإبداع. ولعل ذلك من شأنه أن يطور هذا النوع عربيًا، أو أن يجعل الرواية العربية تتخلص من شحومها السردية ويخرج كتّابها من فوبيا الأحجام الصغيرة. وفي هذا السياق من التلقي ظهرت رواية "كل الحيوانات الصغيرة" لووكر هاميلتون، في نسخة عربية نقلها إليها المترجم والروائي التونسي شوقي برنوصي. وهي رواية في أقل من 100 صفحة وضعها الناشر العربي ضمن سلسلة روايات قصيرة أو النوفيلا.
اقرأ/ي أيضًا: حياة الكتابة.. إنعاش الروح المتعبة بالخيال
وهنا نتذكر عبارة الناقد جوتيث لوبويتز (Judith Leibowitz) في كتابة "السرد وغايته في النوفيلا" الذي شرع في ترجمته المصري خيري دومه: "نحن نستخدم مصطلحات "النوفيلّا"، و"النوفيلّيت"، و"الرواية القصيرة" بمعنى واحد، وهذا خلط سيئ؛ لأن الرواية القصيرة نسخة مصغَّرة من النوع القصصي المسمَّى "رواية"، بينما "النوفيلّا " شكل أدبي مختلف، يتماثل عرَضًا مع الرواية القصيرة في طولها فحسب. ولأننا في البلدان التي تتحدث الإنجليزية نفتقر إلى مصطلح مستقرّ، فإننا نستخدم مصطلحات متعددة وغامضة نشير بها إلى هذا الشكل الأدبي، ولا نميل كذلك إلى التفرقة بين ما هو قصة قصيرة وما هو نوفيلّا، وبين ما هو رواية قصيرة وما هو "نوفيلّا." في قلب هذه الحيرة بين الكائنات الصغيرة والأخرى الكبيرة تنشأ عوالم هذه الرواية وأسئلتها".
قصة الرواية أو بوبي على الطريق الخطرة
تسرد الرواية قصة بوبي بلات، أو روبرت، شابّ يبلغُ من العُمر واحدًا وثلاثينَ عامًا بعقل طفل في العاشرة في أعقاب حادث سير وقع له في طفولته تسبّب له في تأخر ذهني. بعد موت أبيه في حادث طريق يعيشُ بوبي عند زوج أمه العنيف الذي يلقبه بالسمين في كورنوال حيثُ كان يهينه ويضربه ويدمر ألعابه، ويعتدي على حيواناته حتى قطع رأس فأره المحبب بيتر. بعد أن رفض التوقيع على وثائق التنازل عن الدكان التي ورثها عن أبيه قرر بوبي بلات، بعد وفاة أمه، الهرب. أثناء ذلك تعرف في طريقه على السيد سَمرز، شخص غريب يعيش على أطراف البلدة كرس حياته لدفن الحيوانات الصغيرة التي تقتل على الطريق. يطلب بوبي من الرجل السماح له بمرافقته ومساعدته في عمله وبعد تردد وإلحاحٍ من بوبي، يقبل السيّد سمرز وهكذا ينخرط بوبي بلات بعد اختبار دفن فأر دهسته السيارات في حياة جديدة مع ذلك الرجل الغريب، قبل أن تكشف الرواية عن سرّ السيد سَمرز ويتعرف القارئ على حكاية الشاب بوبي وزوج أمه الملقب بالسمين.
رواية بيئية أم رواية عن الوحشية البشرية؟
تبدو الرواية لأول وهلة رواية ذات نزعة بيئية أو ما يعرف بـ "الايكو-فكشن" (ecoficion)، وهي النصوص التخييلية المدافعة عن البيئة، وهو نوع وتيار أدبي معروف يعنى برصد اقترافات الإنسان من جرائم في حق الحيوان والشجر والطبيعة عامة. وهذا ما تبدو عليه أحداث الرواية في سطحها من خلال فضح الاعتداء البشري على الحيوانات الصغيرة كل يوم وبشكل عشوائي، ودون أدنى ندم أو شعور بالحرج.
غير أن قراءة الرواية من زاوية الخيال البيئي يبدو فيها الكثير من التجنّي والمعالجة السّطحيّة وعدم التقاط أصالتها. فالرواية، من خلال اختلاق تلك المهنة للسيد سمرز: دفن الموتى من الكائنات الصغيرة وإعادة الشّرف إلى جسد الكائن الحيوانيّ، ترفع من درجة الاتهام إلى مستوى الكارثة التي تتعدى الوحشيّة الموجهة نحو الحيوانات والبيئة عامة إلى الإنسان نفسه، ولا يأتي الإلحاح على الحيوان فيها إلا من باب الرمزية والإحالة على أهل الهشاشة والضعفاء في العالم، مقابل ماكينة القتل الرأسمالية التي تمثلها شاحنات بضائع الشركات والمصانع على الطريق.
يقول الراوي: "يجبل بعض الأشخاص على القتل. يفعلون ذلك بشكل تلقائي، لأنه جزء من طبيعتهم. يقصدون سرًا قتل أنفسهم ربما".
تضعنا رواية "كل الحيوانات الصغيرة" أمام رعب الإنسان المعاصر الذي تحوّل إلى آلة قتل من أجل المال
إنّ المتأمل في أحداث هذه الرواية وعوالمها وخطابها يكتشف ذلك الاحتياطي الكبير من العنف الذي يمارسه البشر تجاه كلّ شيء من حوله بما فيه الإنسان نفسه. فالرأسمالية المتوحشة التي جاءت بالشاحنات العملاقة على الطريق وزرعت البنوك في كل مكان هي التي حطمت السيد سمرز موظف البنك الذي كان يلاحق نزوات وجشع زوجته وبحثها عن شراء بيوت كبيرة، وجعلته يتورط في أعمال خارجة عن القانون. وفي المقابل كانت زوجته تقتل كل الأشياء الجميلة من حوله عبر إبادة الحشرات والفراشات والفئران من الحديقة، حتى وصلت إلى تسميم كلبه الذي يعتبره الملجأ الوحيد من هذه المادية البشعة، وهو ما دفع السيد سمرز إلى قتلها وحرقها في الفرن والهرب من ذلك الجحيم العائلي والمهني بعيدًا ليعيش في الخلاء يلتقط جثث الحيوانات الصغيرة التي كانت تدهسها العربات والشاحنات على الطرق أين تعرف على بوبي الهارب من عنف أسري آخر؛ عنف لفظي ومادي يسلطه عليه السمين زوج أمه ليعيش معه تلك الشعرية السوداوية في دفن جثث الحيوانات الصغيرة قبل أن يتحولا إلى بلدة بوبي، ويحاولا قتل السمين الذي تصدى لهما وقلب المعركة لصالحه، فتخلص من السيد سمرز بالعنف الشديد وأجبر بوبي على حفر قبر لدفنه وقبر آخر لدفن نفسه، غير أن الشاب بوبي يتمكن من قتل السمين ليموت متعفنا في سيارته.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "قلب أبيض جدًّا".. الماضي جحيم الغد
العنف بصفته حلاً بديلًا
تحاول هذه الرواية الجنائزية الطقوسية التي ينشغل الجميع بالعنف أن ترفع من العنف إلى مستوى الرد العلاجي لما تتعرض له الإنسانية من عنف آخر رمزي، هو المادية التي تهتك بالذات الفردية وخصوصيتها.
فالسيد سمرز قتل زوجته بسبب جشعها المادي، وقتل السمين زوجته ولو بشكل معنوي، بسبب الجشع والرغبة في الاستحواذ على المحل التجاري وعنف وبوبي، وشرّده من أجل الهدف نفسه، ثم قتل السيد سمرز من أجل الدفاع عن المحل الذي أراد استرجاعه للشاب المريض.
لقد جاءت الرواية على لسان الشاب بوبي صاحب العقل المحيّد، العقل المجهض عند سن العاشرة والذي يرمز أيضًا للحظة الفارقة بين الطفولة والمراهقة بما فيها من براءة ملتبسة في الكائن البشري. فبوبي يفشل في رفع السكين في وجه عدوه الأول زوج أمه الذي كان يهينه لآخر لحظة وقتل صديقه أمامه، وحتى عندما جاءت الفرصة لقتله لم يستطع إنهاء العملية فبمجرد أن رأى الدم تركه وهرب. لكنه عندما لاحقه غريمة بالسيارة ظل يقذف عليه الحجارة وهو يرقص حتى أجهز عليه. ليواصل عمله في إنقاذ جثث الكائنات الصغيرة ودفنها بعيدا عن الطريق. ورغم تخلصه من عدوه ظل يشعر بالذعر من المجهول.
إن هذا الكم من العنف الأسود الذي يكتسح عالم هذه النوفيلا، من قتل وحرق ونزع رؤوس الحيوانات وسحقها تحت العجلات، وذبح بالسكاكين ورجم بالحجارة حتى الموت، وقبور كبيرة وصغيرة مفتوحة للبشر والحيوان.. تجعلنا أمام رواية رعب جديد، رعب الإنسان المعاصر الذي تحوّل إلى آلة قتل من أجل المال. وانتصار الكاتب للحيوانات بدفنها وترك الجثث الآدمية النافقة على الطريق مكانها هو شكل من أشكال تكريم الجسد البهيميّ المقتول والخلاص به، مقابل الإسراف في إذلال الآدميّ. ذلك الجسد البشري السمين المتعفّن داخل السيارة مقابل الجسد البهيميّ الصغير الموارى، الذي تؤكده صورة القنفذ الذي سحقه السمين والذي دفنه بوبي في القبر الذي حفره لنفسه بينما حرم منه قتيله السمين.
ولعل عقل بوبي العقل المتخلّف- المحيّد عن المَنطق هو ما يُعطي مشروعيّة لهذا الإسراف في العنف تجاه لحم الكائن الآدميّ بشكلٍ يبدو "خارجًا" عن نطاق المنطق. فالكل بعقل بوبي المحيّد لكن فقط هو ينعت بالمتخلّف والغبي والأحمق، بينما العالم كله دخل في مرحلة العقل الوحشي الغابي الذي لا يفكر إلا بالفرائس.
يمثل الطريق الفضاء الأكثر بشاعة ورعبًا في الرواية، فهو الفضاء الذي اختصر فيه الكاتب كل فظاعات البشر من خلال ما ترتكبه تلك الشاحنات الكبيرة والسيارات التي ترمز للرأسمالية المتوحشة، وأصحابها الذين يركبونها ويسوقونها وحوش آدمية لا تتردد في اغتصاب شاب متخلف ذهنيًا في حمام مطعم أو حانة.
تنقد الرّواية واقع الثقافة الاستهلاكية الذي انتشر في الغرب، وهي رواية تتقاطع مع رواية "تحالف الأغبياء" للأمريكي جون كيندي تول
ينجح الكاتب البريطاني في تكثيف كل ذلك العنف الذي تولد عن هذه الحياة المادية في المدن، ليقدم عالمًا سوداويًا وسورياليًا خطيرًا، كل ما فيه جثث وموت يحصد الصغير قبل الكبير.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "حب الضياع": من نفحات رومانسيّة القرن الـ19
تنقد الرّواية واقع الثقافة الاستهلاكية الذي انتشر في الغرب، وهي رواية تتقاطع مع رواية "تحالف الأغبياء" للأمريكي جون كيندي تول، الذي رحل بدوره بعد روايته شبه اليتيمة التي فشل في نشرها ونشرت بعد انتحاره في نفس العام الذي رحل فيه ووكر هاميلتون 1969، ولا يمكن قراءة هذه الرواية دون استحضار رواية "أمير الذباب" (1954) للبريطاني ويليام غولدينغ، ورواية "رجال وفئران" (1937) للأمريكي جون ستاينبيك، وكل أعمال تنتقد ظهور الرأسمالية المتوحشة منذ بداياتها في الثلاثينات إلى السبعينات.
رواية منسية كجثة حيوان صغير على الطريق
لكي تكتمل هذه النبوءة لفظاعات العالم الجديد الذي كتبه هاميلتون، تخبر زوجته بعد سنوات طويلة الكاتب أدريان سيارل، الذي جاء يبحث عن أخبار الكاتب وفرصة جديدة لإعادة نشر هذه الرواية المنسية، أن زوجها توفي في ذات اليوم الذي انتهى فيه من كتابة روايته الثانية "حياة التنين"، التي نشرت بعد وفاته عام 1970. وتخبر الزوجة الزائر أن ووكر هاميلتون كان قد تعرض لحالة تسمم في الدم، وهو في سلاح الجو الملكي البريطاني مما أضعف قلبه. "لم يذهب إلى الأطباء، ثم في اليوم الذي أنهى فيه الكتاب الثاني، وبعد العشاء، انهار ومات".
حملت رواية "كل الحيوانات الصغيرة" في شكلها مصيرها. وقد اختار الكاتب مقاربة هذا الموضوع الشائك في نوع أدبي هامشي، وفي حجم صغير، لتُسحق الرواية من تاريخ الأدب السمين وأصحاب المدونات الضخمة وتهمل لوقت طويل. وهو نفس مصير كاتبها الذي رحل وهو شاب في الرابعة الثلاثين بعمر بطله بوبي. وهكذا تبدو الرواية التي وضع مصيرها الكاتب دون أن يعلم عندما اختار النوفيلا كنوع أدبي هامشي قد صنعت مصيره هي بدورها عندما أنهت حياته في سن بطلها الشاب.
غير أن الكاتب آلان وارنر في تقديمه الرواية في مقدمة نسخة حديثة ينتقم لكل هذا الحيف والتجاهل الذي تعرضت له الرواية وصاحبها، فيكتب ساخرًا من المؤسسة النقدية العالمية ومؤرخي الأدب: "لا تزال الرواية غير مذكورة في جميع التاريخ الأدبي الحالي، مما يدل على عدم الدقة المعروفة والمدمرة، فالأدب بالنسبة لهؤلاء، مثل القوانين يتم سنها ببساطة من القوانين السابقة، بدلًا من القراءة الأوسع".
تضرب الترجمة العربية لهذه الرواية عصفورين بحجر واحد: تقديم رواية استثنائية معبّرة عن واقعنا اليوم، الذي تماهى مع عوالم الرواية وخطابها، خاصة مع العولمة التي تهدد الهويات الصغرى وتسحقها كالحيوانات الصغيرة في الرواية من ناحية، ويُذكر من ناحية ثانية بنوع أدبي نادر ومهمّش هو النوفيلا، في انتظار ترجمة رواية هاميلتون الأخرى "حياة التنين". وهنا تأتي قيمة مغامرة المترجم العربي الذي بحث عن هذه الجثة الصغيرة لا ليدفنها بل ليحييها وينقذها من العدم الذي زجت فيه بحكم أنها غير معروفة عربيًا. لنتذكر عبارة جون كيندي تول في أول رواية تحالف الأغبياء: "تبقى العبقرية كامنة في مخبئها عصية على الإدراك، حتى تأتي العين التي تدركها فتخرجها للعلن، غير أن هذه اللحظة قد تتأخر أكثر من اللازم فتجني العيون الحمقى على العبقري قبل وصول تلك العين الذكية".
اقرأ/ي أيضًا: