ألترا صوت - فريق التحرير
بدلًا من البحث عمّا قاله الكتّاب حول فهمهم الخاص للكتابة، والتنقيب عن التنظيرات والشهادات، يمكننا، رغم أهمية ما يقال عن الأدب في المقابلات والسير والكتابات النقدية، تلمّس فهم الكتّاب للكتابة الأدبية من خلال نصوصهم نفسها، إذ أن كل نصّ يشكّل فهم ومنظور صاحبه لمعنى الكتابة.
هنا جولة سريعة في تجارب ثلاثة كتّاب من أشهر كتاب أمريكا اللاتينية، شكّلت أعمالهم دورسًا في معنى الأدب.
1. إدواردو غاليانو: وحدة الأنواع الأدبية
لا تريد نصوص الأرغواني إدواردو غاليانو أن تحدّد نفسها بنوع أدبيّ معين كالرواية أو القصة أو القصيدة، فتجربة هذا الكاتب ترفض الاعتراف بالحدود التي وضعها "ضابط جمارك الأدب".
يستعصي نصّه على التصنيف دومًا، ففي كتاباته الحرة التي تشكّل كل قطعة منها قطعة موازييك، تتداخل فيه الذاكرة الشخصية، بالذاكرة الجمعية، بالتاريخ، بالأدب، بالجغرافية، بالفلسفة... إلخ، لأنه يعمل، وبدأب النسّاج، على جمع فضائي الشعور والتفكير، العقل والقلب، فمن جهة تجد النصف الأول زاخرًا بالعاطفة الإنسانية الدافئة، القائمة على الحب، ومن جهة ثانية تظهر نصوصه وكأنّها خلاصات بحث منهجي لتصويب أخطاء التاريخ، والانتصار لحقوق الإنسان التي كان صانعوها أوّل منتهكيها.
منطق غاليانو هو منطق الصيّاد، كما هو عنوان آخر أعماله. إنه فعلًا "صيّاد القصص" الذي يقتنص قصة من كتاب أو صحيفة أو من راوٍ ما، ثم يبدأ بمنحها روحًا أقرب إلى روح الشعر. هذا ما فعله في أعماله الكثيرة مثل: "العروق المفتوحة لأمريكا اللاتينية"، وفي ثلاثية "ذاكرة النار"، و"كلمات متجولة"، و"أفواه الزمن"، و"مرايا".
2. ماريو بارغاس يوسا: تحوير المرسم
البيرواني ماريو بارغاس يوسا واحد من أكثر الكتّاب تجـريـبـًا وبحثًا عن تقنيات جديدة. الشكل سؤال مقلق لدى صاحب "شيطنات الطفلة الخبيثة". في كل نص جديد يصدره ثمة اختراعات سردية، نراها في تقطيع للزمن، وفي المونتاج غير المتوقع، وفي استعمال أشكال غير قابلة للسرد لتكون سردًا: مراسلات الجيش في "بانتاليون والزائرات"، والفن التشكيليّ في: "امتداح الخالة" و"دفاتر دون ريغو بيرتو" و"الفردوس على الناصية الأخـرى".
في هذه الأعمال جعل الفنانين شخصيات في متنه الروائي، وجعل الفن تقنية سردية، ما جعله يبدو مقلّصًا للمسافة بين الكتابة والـرسـم، لتغدو فصول الروايات لوحات، والعكس صحيح أيضًا.
في "امتداح الخالة"، وظّف لوحات عالمية في سياق قصته، ولعب لعبة ذكية من خلال وضع الحواشي للنص، لكن حواشيه التي جاءت في نهاية الرواية لم تكن إلا صور لوحاتٍ من التحف العالمية، اختراع لها حكايات أخرى كما لو أنه رسمها بنفسه.
في كثير من عقل يوسا ألوان وكتل ومشاهد. في رواياته شيء من رسّام موءود اضطر إلى استبدال مرسمه بطاولة كتابة.
3. بورخيس: الإخلاص للمخيلة
المحاضرات التي ألقاها الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس في مناسبات كثيرة وجُمعت في كتب مختلفة، لتكون نصوصًا أدبية كاملة البنيان، توضّح كيف يفكر هذا الكاتب والشاعر الاستثنائيّ.
الشعر بالنسبة له مساحة من الشك والارتياب، وما من قول جامع مانع. انطلاقًا من مقولة القس بيركلي "إنّ طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، فالتفاحة بذاتها لا طعم لها، وليس في فم من يأكلها، وإنّما هو في التّواصل بين الاثنين"؛ يرى صاحب "كتاب الرمل" أن انبعاث العالم يحدث عندما يُظهر القارئ الرموز والأشياء المخبّأة، وهذا هو ظهور الشّـعر.
رفض بورخيس الرواية، بل كان مصرًّا على أنها ستموت. بالنسبة له لا يوجد حدث في العالم يستحق أن يكتب عنه أكثر من خمس صفحات. إيمانه بالملحمة، أقدم أشكال الشعر، هو الدافع لهذا الرفض للرواية، وبالنسبة له سيعود البشر إلى الشعر، و"أنّ الشاعر سيعود ليكون خالقاً من جديد، أعني أنه سيروي قصّة وسيغنيها أيضًا"، كما قال يومًا.
بورخيس سأل نفسه: "ما الذي يعنيه، بالنسبة لي، أن أكون كاتبًا؟"، وأجاب: "يعني، ببساطة، أن أكون مخلصًا لمخيلتي".
إنه يكتب ضمن المعادلة التي قالها في كتاب "صنعة الشعر": "عندما أكتب أحاول أن أكون مخلصًا للأحلام وليس للظروف (...) عندما أكتب لا أفكر بالقارئ (لأنّ القارئ شخصية متخيّلة) ولا أفكّر في نفسي (ربّما لأنني شخصية متخيلة أيضًا) وإنّما أفكّر في ما أريد إطلاقه، وأفعل ما أستطيعه كي لا أفسده".
اقرأ/ي أيضًا: