أن تحبي فلسطينيًا يعني أنك ستتحولين إلى وطن لا حبيبة عابرة. أن تكتب عن رضوى يعني أنك ستكتب عن وطن لا روائية عابرة. حين تتورط في نص قصير وسريع في رثاء الوطن، ستقع في حيرة عن أي وطن تكتب، كسرة الخبز أم الدواء؟ الورقة والقلم أم الأستاذة؟ المعلّمة أم الصديقة؟ الزوجة أم الأم؟ الثائرة في ميدان التحرير أم مناضلة الحركة الطلابية؟ كل هؤلاء رضوى عاشور، لأنها أثقل من مجرد "رضوى".
يمكن أن تركن كل ما يقال عن "السيدة راء" في مساحة ضيقة من حياتها، وتفتح النور على المفتاح الأخير الذي تطلّ منه على رضوى، ويجمع كل حيواتها وأعمارها وتجاربها، وهي المتمردة. حملت على كاهلها وجهة نظر تقول: "لا يمكن أن يكون الحب أعمى لأنه هو الذي يجعلنا نبصر"، وهو ما جرى حين رأت مريد، لأول مرة، على سلم جامعة القاهرة، حيث سمعت صوتًا يلقي قصيدة خطفت روحها، وظلّت ذكرى أول لقاء تداعبها، فتروي: "حين سمعت قصائد مريد تمرّدت وتوقفت عن الشعر، لأن الشعر أحقّ بأهله".
حين رفض أهل رضوى عاشور أن ترتبط بشاب فلسطيني بلا وطن، كانت هي تكتب تفاصيل حياة أخرى
حين رفض أهل رضوى أن ترتبط بشاب فلسطيني بلا وطن، أو هكذا وصفوه، كانت هي تكتب تفاصيل حياة أخرى، قدر آخر اختارته، واختاره لها مريد رغم رفض أهل رضوى أن تكون له، ويكون لها، حين سقطت كلمة "لا" الحاسمة من والدها، الرجل المحافظ، حينما قابله لأول مرة ولمس في نبرة صوته حبًا مجنونًا لابنته الصغيرة.
هل غيرة الأب قضت على كل شيء؟.. بالطبع لا. يقول مريد: "إلى الأبد لم أشعر بأي لوم أو عتب على موقفهم تجاهي"، رضوى، التي قالت "لا" لأسرتها، وتمرّدت على أبيها، وارتبطت بمريد وتزوجته، تستحق أن تحبّ احتكارها لذاتك، وتضع على أبوابها الحرس والخدم لكي لا تهرب، أو ينعم غيرك بصحبتها الشهية ودلالها.
تتمرّد رضوى على الرؤساء أيضًا. من دفاتر عمرٍ مضى، قصة تقول إنها كانت متفوقة في كلية البنات، والكلام عن أدبها وأخلاقها ملأ الدنيا، فكرّمها جمال عبد الناصر في عيد العلم لتفوقها الدراسي، لكن "السيدة راء" الموشومة بالتاريخ، مهتمة بإعادة ترتيبه وطعن رجاله في أسفل سافلين، ورفع بعضهم إلى مراتب الرسل، كتبت رواية "فرج"، وعادت إلى ناصر الذي كرَّمها، وكانت الرواية عن ندى عبد القادر، ابنة دكتور مصري متخرّج من السوربورن، ومتزوج من فرنسيّة، تخوض تجربة الاعتقال السياسي على ثلاث مراحل، الأولى حين اعتقل نظام عبد الناصر والدها، مرورًا باعتقالها هي، وأخيرًا باعتقال أخيها غير الشقيق الذي كانت تعتبره ابنها. عبد الناصر إذن -في نظرها- ديكتاتور وقح منع تجربة حياة بنت اسمها ندى من المرور إلى مجراها كأنه عزرائيل سارق الأعمار!
متمرِّدة ضد السادات هو الآخر تمرد له ما يبرره، فقد كان سر أقوى وأصعب مآسي حياتها حين بدأ مراسم الحج إلى تل أبيب، وطاف حول "الكنيست" فطرد الفلسطينيين من مصر، وشرّد بعضهم، ومُنِع مريد من دخول القاهرة عام 1979.. ما الذي فعله الرئيس الراحل؟.. ببساطة، مزّقها.
كأنّ همًّا واحدًا لا يكفي أو كأنّ الهموم يستأنس بعضها ببعض فلا تنزل على الناس إلا معًا
وضعت رضوى الرئيس على يمينها، ومريد على يسارها، واختارت اليسار، الذي لم تملّ منه أبدًا، مواصلةً التمرّد عبر خطوط طيران مختلفة، حاملةً تميم -بشهوره المعدودة على كف اليد– إلى المجر للقاء مريد، وما إن نامت بجواره متعبة من الرحلة والبُعْد والسفر المقدّس، هدهدها قائلًا: "عودي يا ضحكتها عودي".
المرض أيضًا يرسم خطوطًا عريضة لقصة تمرّد لن تنتهي، وكأنّ همًّا واحدًا لا يكفي أو كأنّ الهموم يستأنس بعضها ببعض فلا تنزل على الناس إلا معًا.
على الجانب الآخر، كانت "راء" بين أيدي الأطباء، والسرطان يحشّ جذور علاقتها بالحياة، والموت يحوم حولها، يقول الطبيب: "لم تشعر بخوف من الموت، وكان همها أن تعرف ما يجري في تونس ومصر"، وتقول هي: "لم أكتب عن الموت إلا قليلًا، لا أريد أن أعرفه، ولا أخاف منه".
رضوى المتمرّدة على الحياة والموت عادت إلى مصر، إلى البيت والحياة والنضال والجامعة، وشاركت فيما بقي من الثورة بعدما قهرت النهاية الملعونة في واشنطن، وكأنها تناست المرض حتى نسيته -أو هكذا بَدَتْ- وحين يهددك الموت يصغر ما بدا رهيبًا وفظيعًا، ويتقلّص في زاوية داخل "القلب والحشا"، كما كانت تؤمن.
والسؤال الآن.. كيف هو البيت بلا رضوى؟ يجيب تميم-الذي أصبح بلا وطن ولا بطاقة هوية- بعد صمت حزين وأسود: "لم يعد بيتًا.. أصبح مكانًا فيه ذكريات".
اقرأ/ي أيضًا: