أصدر "المركز القومي المصري للترجمة" الدراسة الأدبية التي أنجزتها الدكتورة الراحلة لطيفة الزيات، بالتزامن مع مرور ذكراها الـ 94. الدراسة التي حملت عنوان "حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر بين 1882 – 1925"، وحصلت بها لطيفة الزيات على الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1957، جاءت بتحرير الناقد والمترجم خيري دومة، أستاذ الأدب العربي في الجامعة نفسها، الذي ظل يبحث عن تلك الرسالة حبيسة الأدراج لسنوات طوال حتى أن هناك معلومات لم يتمكن المحقق من قراءتها، إلى أن وجدها في كلية الآداب قسم الصحافة. يرى خيري دومة "في تلك الدراسة قيم باقية تُبرر نشرها الآن، بالرغم من مرور وقت طويل على كتابتها، منها ما رسمته من أساس تاريخي واجتماعي وثقافي لتطور حركة الترجمة، وبالتالي كان معها حركة الأدب العربي الحديث، كما قدمت ترجمات تعتبر مجهولة بالنسبة لنا".
كتاب لطيفة الزيات عن حركة الترجمة يحرث أرضًا بِكرًا، ويرسم خطوطًا أولية لبدايات الثقافة العربية الحديثة
هكذا إذًا يمكن اعتبارها بمثابة دراسة للثقافة العربية عمومًا وليس للأدب فقط؛ فهذه الدراسة "تحرث أرضًا بِكرًا، وتتبين خطوطًا أولية غير واضحة في حركة الثقافة العربية الحديثة، وبشكل خاص في حركة الأدب العربي الحديث وتحوّلاته"، التي ظهرت مع ظهور طبقة من المتعلمين تعليمًا غربيًا على وجه التحديد.
اقرأ/ي أيضًا: الترجمة في اللغة الكرديَّة: محاولة ردم الهوّة المعرفيَّة في زمننا الرّاهن
ولدت لطيفة عبد السلام الزيات ولدت في يوم 8 آب/أغسطس عام 1923، ومع التدرج التعليمي في مسيرتها كطالبة، تم انتخابها عضوة في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة؛ وشاركت في تنظيم المظاهرات الطلابية في 9 شباط/فبراير -فيما يعرف بحادثة فتح كوبري عباس الشهيرة التي خلفت العديد من الجرحى والقتلى- كما شاركت في الإضراب الطلابي العام ضد سلطات الاحتلال البريطاني في 21 شباط/فبراير 1946. حصلت لطيفة الزيات على درجة الليسانس عام 1946، ومن هنا بدأ اهتمامها الواضح ومشاركتها بالعمل الوطني الديموقراطي الذي بدأ أساسًا في بداية الأربعينيات، وأصبحت عضوًا في منظمة إيسكرا، بينما سُجنَت للمرة الأولى في تاريخها عام 1949، أي وهي في سن الـ26 عامًا، في قضية الانضمام لتنظيم شيوعي. ثم خرجت لطيفة الزيات من السجن وحصلت على دبلوم معهد الصحافة -نواة كلية الإعلام في مصر- عام 1952، وعلى درجة الدكتوراه من قسم التحرير والترجمة والصحافة بكلية الآداب، جامعة القاهرة بتقدير جيد جدًا، وقدمت هذه الرسالة المنوط بها هذا التقرير؛ المقدمة والمجازة منذ عام حزيران/يونيو 1957، والتي تعتبر واحدة من أهم الدراسات التي قدمتها إحدى النساء الرائدات اللواتي صنعن الحراك الكبير بخصوص حقوق المرأة من خلال معسكرها اليساري الذي لم تتركه قط حتى وفاتها عام 1996، بعد رحلة نضالية كبيرة تخللها زيجتان وسنوات من العمل الذي لا ينتهي.
حركة الترجمة.. أوّل الغيث
كان تأخر مستوى التعليم في مصر مع بداية الاحتلال، منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، سببًا أساسيًا في تأخر حركة الترجمة أيضًا، فأثناء الاحتلال حدّد أحد رجال الاستعمار اللورد كرومر أن "تحديد مستوى موحّد متدن من التعليم هو الحل الوحيد الذي يمكنه الوقوف أمام القيادات الشعبية التي تثير الشعب ضد الحكام"، فقام بإعاقة المقومات التي تؤدي بالشباب إلى الالتحاق بالجامعة أو التعليم الحديث عمومًا، بالإضافة إلى نشر الكتاتيب البدائية، كما لم يكن تراجع مستوى التعليم مقتصرًا على كمية المدارس وعددها، بل تحوّل عملية التعليم إلى مجرد معامل تخرّج موظفين للحكومة المصرية، مدربين على الطاعة العمياء، يحفظون أدوارهم كما يحفظون موادهم التعليمية كالببغاوات، لينفضوها في ورقة الإجابة ويرموها بعد ذلك خلف ظهورهم، ولا يدركون لها قيمة في ذاتها، حيث كان مقياس النجاح في الوظيفة هو الخضوع وتنفيذ الأوامر، بالتالي يمكن أن نعتبر أن تاريخ الأدب العربي، وكذلك الرواية والقصة القصيرة، في تلك الفترة ليس إلّا تاريخًا من النفوذ الأجنبي، إذ كان الأدب يتأرجح بين كتابات لا حياة فيها وبين التقليد للغرب وترجماته.
مرّت ترجمة القصص عن الإنجليزية في فترة البحث، أي من عام 1882 إلى عام 1925، في أربع مراحل، فكانت الفترة من البداية حتى 1899 مرحلة نشأة عادية أعقبتها فترة ازدهار نسبي بين عامي 1900 – 1909، ثم فترة خمول في 1910 – 1919، ثم الفترة الأخيرة التي تميزت بالازدهار الضخم فسُجل في فترة قصيرة من 1920 حتى 1925 توسعًا لا عهد لمصر به من قبل، وتحول الأسلوب على مر الفترات من نتيجة عدم وجود أسلوب واحد يمكنهم اتباعه، فمنهم من يستخدم العربية الفصحى المتكلفة، ومنهم من يستخدم العامية الركيكة، وتحول موضوع الروايات من المواضيع المفتعلة (episodic) حيث ترصّ الأحداث جنبًا إلى جنب بقصد التسلية، ونفتقد هنا الوحدة في معالجة الموضوع ووحدة الجو وتحول وظلت مرتبطة بالصحافة واعتمدت عليها كليًا وتحول إلى نقل الروايات القوية ذات الحبكة القوية، حيث لم يكن الاعتماد على الإنجليزية فقط، وكان إلى جانب الأدب الإنجليزي تترجم مختارات من روائع الأدب الروسي.
كان تأخر مستوى التعليم في مصر مع بداية الاحتلال، منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، سببًا أساسيًا في تأخر حركة الترجمة
والجدير بالذكر أن تلك الترجمات في مصر بدأت أساسًا باللغة العامية؛ حيث كان المترجمون يشعرون أنّ في ذلك "تبسيطًا يلائم الجمهور العام" في مصر، بينما بدأ التطور يأخذ منحى جديدًا، بالتركيز على أسلوب جديد حيث لم تعد الرواية تهدف إلى كشف المجتمع لنفسه، وإنما انتقلت الأهمية من المجتمع إلى الفرد، كما ظهر لون جديد أوجد أدب الرومانس؛ تلك الرواية الخفيفة التي لا تهدف سوى للتسلية، وليس لها علاقة بالواقعية، تطبيق واضح لمقولة أرسطو التي تقول "إن أسوأ العقد هي التي تقوم على الأحداث الكثيرة". ثم اشتهر القصص الغرامي بكثرة بين الجمهور إلى جانب القصص الاجتماعي الذي يميل إلى الوعظ والإرشاد وتقديم الحكم.
الأدب وفروعه
ومن ترجمة الأدب عرفت مصر مختلف الفنون الأخرى؛ فمثلًا تبدأ قصة التمثيل بالتاجر اللبناني مارون النقاش الذي رحل إلى أوروبا وتأثر بفن التمثيل الإيطالي، ثم كتب عدة مسرحيات بالعربية إلى جانب ما ترجم منها عن الفرنسية والإيطالية، وحاول إدخالها إلى مصر، كما أنشأ المخرج سليمان القرداحي مسرحًا خاصًا به وافتتح موسمه الجديد بتقديم مسرحية "الصراف المنتقم"، المعربة عن مسرحية "تاجر البندقية" للكاتب الإنجليزي ويليام شكسير، في حين كان تكوين فرقة جورج أبيض نقطة التحول في تاريخ التمثيل المصري في تلك الفترة، حيث حاول الالتزام بالنص الأجنبي دون التبسيط والإخلال الذي كان يتعامل بهما غيره، فاستطاع استقطاب مثقفي تلك الفترة إلى المسرح بعد هجره، إلى أن جاءت ثورة 1919 كهزة عنيفة وطورت إتجاهه إلى المسرحية وجعلتها أكثر ثورية وارتباطًا بالمجتمع، كما جعلت الأدب أيضًا، وذلك بخلاف ما فعله المترجمون في أولى فتراتهم؛ فقد مسخوا الأثر الفني المترجم، وأهدروا وحدته الفنية في محاولتهم لتبسيطه وصبغه بصبغة محلية، وذلك بغية تقريبه إلى الجمهور ليصبح فارغًا بلا معنى واضح وغير مؤثر.
اقرأ/ي أيضًا: دنيس جونسون ديفز وذكرياته في الترجمة
واقتصرت الترجمة الأدبية على ترجمة المسرحية والقصص والأدب الذي يقوم على أساسه فن الرواية وهو أقرب ألوان الأدب للشعوب، ولما بدأ الوعي يتبلور اتسم صراع الشعب ضد الاستعمار بجدّية صبغت جميع مناحي الحياة واستطاعت مصر تقديم أنواعًا جديدة شيئًا فشيئًا مثل الشعر والنثر الفني اللاروائي الذي كان يهتم به أرستقراطيو البلاد، ثم تطور مع الوقت أيضًا.
تأثرت حركة الترجمة الأدبية كذلك بالكفاح بين القديم والجديد، لا في مدى خمولها وازدهارها فحسب، بل في اتجاهها وفي طريقة الترجمة ذاتها، من حيث العرض والأسلوب، وكان لها دور لا ينكر في دفع عجلة التطور إلى الأمام فقد أرست في عقل القارئ العادي أفكارًا وثقافة جديدة، وكانت بمثابة نافذة يطل منها الفرد العادي غير العارف باللغات الأوروبية على العالم، حيث كانت العامة لا تستطيع التعبير عما يدور في خلدها من تعنت السلطة والاستعباد السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي يمارسه الاحتلال، كما يمارسه الملك.
وكان "وجود الصحافة الشعبية المتحررة من الربقة الرسمية عنصرًا أساسيًا من العناصر اللازمة لبدء حركة الترجمة الأدبية"، فالارتباط بين الصحافة والقصص لم يتوثّق مثلما توثق مطلع القرن العشرين، فالصحافة عادة أداة شعبية تعتمد في وجودها على محاولة توسيع دائرة جمهورها، وتنوعه، واجتذاب دائرة أكبر من القراء، وهدفها كسب كل مُلم بالقراءة، ولمّا كان هناك طلب حقيقي على قراءة الأدب، كان تطور عرضه في الصحف والمجلات يسير في خط واحد بمحاذاة تطور الصحافة أيضًا بدون تعريب مخل له، وذلك "لأن الأدب الممتاز يحتاج في ترجمته إلى جهد وإمعان واستقصاء وهو يقوم على فكرة وعلى دراسة النفس ومشكلاتها ولا يليق للتلخيص ولا يستدعي التبديل والتحوير".
كان طريق الترجمة، حسب لطيفة الزيات في دارستها لنيل الدكتوراه، "شديد الوعورة في بادئ الأمر"
إذًا كان طريق الترجمة في تلك الحقبة على حد قول لطيفة الزيات "شديد الوعورة في بادئ الأمر"، حيث تقدمت في ظلّه حركة الترجمة الأدبية بمنتهى الحذر، وفي حدود ضيقة للغاية ثم استوى الطريق في بداية القرن العشرين وتغير الوضع في طريق انتصار الثقافة، فكان من شأن العنت الاستعماري الذي أصاب الاقتصاد والسياسة في مصر، والذي استمر بصور متفاوتة طيلة فترة البحث أن ترك أثره في إضعاف الإنتاج الأدبي عامة وحركة الترجمة الأدبية بصفة خاصة، وذلك لارتباطها ارتباطًا وثيقًا بالصحافة أينما كانت، وهي اللسان المعبّر للحركة الوطنية، والتي هي موضع تنكيل من الاستعمار، فقد أوقفت فترة الإرهاب الاستعماري الذي ساد مصر أثناء التطور التصاعدي لحركة الترجمة.
اقرأ/ي أيضًا: أحمد شافعي: ما كنتُ لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة!
وإجمالًا فإن حركة الترجمة الأدبية التي قامت في مصر في تلك الفترة تطورت فقط لتمثّل احتياجات وإمكانيات الطبقة المتوسطة المتعلمة تعليمًا حديثًا، والجماهير الشعبية التي التفت حولها خير تمثيل، كما مثلت أيضًا ثقافة المترجمين الذي يُعتبرون جزء من العقل الجمعي المصري، لا سيما حين استطاعوا السير بخطوات ثابتة إلى إدخال كل تلك العناصر الأدبية والفنية إلى الداخل المصري، بالرغم من كل الصعوبات التي واجهتهم في البداية وعلى مدار سنوات، "وقد حققت الحركة ما يمكن أن تحققه في حدود إمكانيات وإحتياجات الرأي العام المصري في هذه المرحلة، كما تسببت في ظهور القوالب الجديدة من رواية وقصة قصيرة إلى المسرحية في الداخل المصري"، فكانت تلك الفترة مسار البحث (1882 – 1925) هي البداية الحقيقة الواضحة لعالم الترجمة، -من الإنجليزية إلى العربية بالتحديد- والذي تسلّم رايته بعد ذلك علماء الفترة التي تلتها أمثال طه حسين وغيره مع توسع أفقهم في عدم التركيز على الإنجليزية فقط، لتظل تلك الشعلة التي يسلمها جيل إلى يد جيل آخر كنقطة نور تساعد على تطور التعليم الثقافة ولا سيما الإندماج سواء بين أفراد الوطن الواحد أو العالم أجمع.
اقرأ/ي أيضًا:
اغتيال المحرر الأدبي.. أين اختفى المخبر السري الذي يكرهه الكتاب؟