ليس الشّعرُ حلًّا سحريًّا ولا خلاصًا لأيّ مشكلة من مشكلات العصر أو الإنسان. كما لم يكن يومًا بديلًا عن البيرة أو استعاضةً عن المواساة. الشّاعر المثقف، المستنير، يدركُ ذلك، على اعتبار أنّ الشّعر عالمٌ خارج العالم أو بالأحرى زمنٌ خارج الزّمن، نكتشفُ عبرهُ، وبهِ، أنّ الشاعر سرعان ما يجد نفسه أبلهَ أو أحمق في أول احتكاك له مع الواقع المعيش.
الشّعر عالمٌ خارج العالم أو بالأحرى زمنٌ خارج الزّمن، نكتشفُ عبرهُ، وبهِ، أنّ الشاعر سرعان ما يجد نفسه أبلهَ أو أحمق في أول احتكاك له مع الواقع المعيش
يُمكنُ لما تقدّم أن يأخذنا إلى سؤال بسيط مفادهُ: هل يمكننا العيش دون شعر؟ ولا أقصد بـ"يمكننا" أي نحنُ معشر الشّعراء، بل جلُّ قصدي ومراده هم القراء. أولئكَ الّذين يتمُّ عقد الرّهان عليهم، وبهم تتمُّ المراهنة. القرّاء الّذين يقرأون القصيدة اليوم هل يمكنهم أن يتذكّروها غدًا؟
هذا بدوره يقود إلى تعريف القصيدة للمرّة المليار. والمضحكُ أنّ ذلك لم يعد متاحًا، يشقُّ علينا تعريف القصيدة للمرّة المليار وقد نسينا أن نعرِّفها ولو لمرّة أولى!
حسنًا، بعيدًا من هذا الهراء كلّه. لنتحدّث عن شيء موازٍ لهذا الطرّح هل يحتاج الشّاعر إيمانًا خاصًّا بالشّعر غير ذلك الإيمان القابع في قلب وجوف القارئ؟ إيمان القارئ هل تهبه القصيدة عرفانًا يغفل عنه الآخرون؟
كيف السّبيل التّصالح بين التّجديد والإيمان؟ بين الثّقافة والعاطفة بين الشكّ والخلود؟
هي صلاة متاحة للجميع، قراءة الشّعر العربيّ باللّغة العربيّة الأخرى، أي لغة القارئ غير المثقل بحمولات النّقد الأكاديمي وحشو الصحافة ومبالغات شعراء الأساطير. القارئ الّذي يقرأ النص كما لو أنّه يتعرّف على فن اسمه الشّعر للمرّة الأولى.
أتمنّى أن أقرأ الشّعر الهنديّ باللّغة الهنديّة، الإنجليزي بالإنجليزيّة، الفرنسي بالفرنسية، التركي بالتركيّة لأفهم عندئذ أنّ شعر العالم له المصدر نفسه، الشّعر كلّه شعر ومصدره الكون.
لو قال لي النقّاد تعال هذه رؤيتنا عما يُكتَب لقلتُ القراء أحبُّ إليَّ مما تدعونني إليه، فعلى الدوام يعتبر الشّعراء أنفسهم الأحقّ بقول أيّ شيء أو بفعل أي شيء، على الدّوام يجدون العذر لأنفسهم لكلّ ما يفكّرون به وما يتخيّلونه وما يفعلونه، تتمّ مسامحتهم من قبل الناس دائمًا.
بدورهم النقاد يروّضون الشّعراء يباركون لهم الخيال المريض ما الخيال المريض؟ هو ببساطة ذلك الوهج الذي يوهم صاحبه بأنّه يقوم بتدفئة الجميع.
القصيدة العربية عظيمة من تحت ورديئة من فوق، والقول هي عظيمة من تحت لأنها عظيمة فعلًا ورديئة من فوق، لأنها تعتقد أنّها أقلّ قدرًا من القصيدة الأجنبيّة حتمًا، وهذا الشّعور بالنّقص يجعل الشّاعر العربي يزلّغ روحه من أجل أيّة ترجمة وإن كانت متواضعة إلى لغة أخرى. والمضحك أنّ هذا الوهم يستمرّ معه حتّى يغدو وكأنّه صار عالميًا. شعر مترجم غير مقروء في لغته أفضل من شعر مقروء غير مترجم تلك معادلة طريفة يمكنك مواجهة رفاقك الشّعراء لمعرفة أيّة جهة تعجبهم!
القصيدة العربية عظيمة من تحت ورديئة من فوق، لأنها تعتقد أنّها أقلّ قدرًا من القصيدة الأجنبيّة حتمًا، وهذا الشّعور بالنّقص يجعل الشّاعر العربي يزلّغ روحه من أجل أيّة ترجمة
ينضج النقد الحقيقي في مسائلة الرؤى لا في فهم النظريات، وتلك معضلة من معضلات النقد العربي الحالي مع جل التقدير لها، وبالمقايسة السياقية مع المثل الشهير "لا تعطني سمكة علمني كيف أصطاد"، فإن النظريات والممارسة النقدية هي محض كيفيّات عديدة للصيد لكن الناقد العربي المعني يفضل السّمك المسقوف.
يسألُ سائلٌ بعد كلِّ هذا الكلام: ما الحرية الّتي يتغنى بها الشّعراء؟
لم يخطر لك أن تسأل أهي حرية الفرد نفسها حرية تفكيره وعيشه وتعبيره أم أنها حرية أخرى؟ حرية تتيح له النمو مثل الآلهة فوق كلّ شيء؟
تبًا لكلّ المهابيل الّذين يظنّون أنّ الشّعر يغفرُ الذّنوب بدلًا من الله.