منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كانت هناك العديد من التصريحات التي صدرت عن مسؤولين من جنوب أفريقيا، يُعبّرون فيها عن إدراكهم لحقيقة الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ويوضحون عبرها فهمهم لذلك التشابه بين الفصل العنصري القائم في فلسطين حاليًا، وذلك الذي ظلّ قائمًا في جنوب أفريقيا لمدة نصف قرن (1948 - 1994)، قبل أن يتمّ تفكيكه وإسقاطه بفعل مقاومة أغلبية سكان جنوب أفريقيا.
لعلّ تصريحات أولئك المسؤولين حول إدراكهم وفهمهم لذلك التشابه بين نظامَي الفصل العنصري في بلادهم وفلسطين؛ هي تصريحات يُمكن جعلها نقطة انطلاق لفهم طبيعة الخطوة التي اتخذتها جنوب أفريقيا مؤخرًا، وتمثّلت في قيامها بتقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية لبدء إجراءات ضد إسرائيل لقيامها بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
خطوة جنوب أفريقيا لمحاكمة إسرائيل ومقاضاتها نابعة من دولة لديها تاريخ معاناة طويل مع نظام فصل عنصري، ميّز ضدّ السكان على أساس العرق، واستخدم القانون فيه كسند لإرساء تلك القواعد التمييزية بين السكان البيض والسود، حيثُ حكمت من خلاله الأقلية البيضاء الأغلبية السوداء، وفق منهج إقصائي يُحافظ على المصالح والبنيات التجارية والاقتصادية التي أقامها البيض في ثلاثة قرون من الاستعمار.
تقول خطوة جنوب أفريقيا بأنّ حقبة الاستعمار وتبعاته في الدول التي تتعرّض له تبقى محفوظة في ذاكرة شعوب وسكان تلكَ الدول، وتبقى تُذكّرهم بما تعرضوا له ومروا به
تقول خطوة جنوب أفريقيا بأنّ حقبة الاستعمار وتبعاته في الدول التي تتعرّض له تبقى محفوظة في ذاكرة شعوب وسكان تلكَ الدول، وتبقى تُذكّرهم بما تعرضوا له ومروا به. وها هيَ جنوب أفريقيا تستفيق على صوتٍ يُذكّرها بمآسي سكانها ومعاناتهم جراء الاستعمار وتوابعه، ويدعوها إلى الوقوف إلى جانب شعبٍ آخر يرزح منذ ما يزيد عن نصف قرن، تحت نظام استعماري إحلالي استيطاني، لا يكتفي بسرقة الأرض وإقامة المستوطنات عليها، ولا يتوقّف عند حدود إقامة نظام فصل عنصري خفي وغير ملاحظ بسبب طبيعة الوحدة السياسية لفلسطين، وهي التي يُمارِس داخلها أشكال الفصل والعزل والتمييز في ثلاث سياقات مختلفة (سياسات عنصرية وتمييزية معينة في الضفة الغربية، سياسات حصار وعزل لقطاع غزة، سياسات عنصرية وتمييزية معينة في القدس والداخل الفلسطيني)؛ بل يُمارِس التطهير العرقي والإبادة الجماعية في حقّ شعبها على مرأى ومسمع العالَم أجمع.
يَرد في كتاب لمجموعة مؤلفين، صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) بعنوان: "إسرائيل والأبرتهايد: دراسات مقارنة" بأنّ "ما ينقص فلسطين حتى تصبح حالة أبارتهايد واضحة وجلية للعين هو ليس الفصل والعزل، إنما غياب الوحدة التي يجري في داخلها هذا الفصل. الأبارتهايد ليس مجرد عملية فصل، إنّما هو فصل داخل وحدة، أي فصل وعزل ما كان من المفروض ألا يعزل أصلًا".
يُقصد من الحديث السابق بأنّ طبيعة التقسيمات السكانية (الضفة، غزة، القدس، الداخل الفلسطيني) داخل فلسطين تؤدي إلى غياب وجود الوحدة السياسية الواحدة التي تُمارَس في داخلها سياسات العزل والفصل الإسرائيلي بشكل واضح وجلي، وهو ما يؤدي إلى غياب الصورة الكلية لهذه السياسات باعتبارها سياسات فصل عنصرية، فهيَ تُمارَس في كلّ منطقة سكانية فلسطينية بطريقة مختلفة.
غياب الصورة الكلية لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين لمْ تمنع حكومة وشعب جنوب أفريقيا من استحضاره واستبيان ملامحه في ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني، ولعلّ هذا ما دفع الشعب الجنوب أفريقي إلى الخروج في حركة تضامنية واسعة مع غزة، كما أنّه دفع بالحكومة إلى رفع دعوى قضائية لمحاكمة إسرائيل على جريمة الإبادة الجماعية الضالعة في ارتكابها يوميًا هناك، وكلّ ذلك يجيء ليشي بأنّ حقبة الاستعمار وتوابعه تبقى محفوظة في ذاكرة الشعوب، تذكّرهم بأنّ يقفوا ويساندوا ويتضامنوا مع الشعوب الأخرى التي تُشاركهم نفس الحقب والآثار الاستعمارية.