للعام الثالث على التوالي، يغيب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن قصّ شريط افتتاح "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، مُنيبًا عنه رئيس الوزراء شريف إسماعيل. ورغم أن الأمن منع عددًا كبيرًا من المدعوين لحضور حفل الافتتاح من التواجد لحظة الافتتاح، إلا أن قيام رئيس الوزراء بقصّ شريط الدورة الثامنة والأربعين من المعرض، مثّل إحدى المرات النادرة التي يرى فيها المصريون شريف إسماعيل وحده يفتتح شيئًا، لأن الرئيس السيسي يفتتح حتى الكباري والمشروعات السكنية ومشروعات المزارع السمكية في المحافظات.
للعام الثالث على التوالي، يغيب السيسي عن افتتاح "معرض القاهرة الدولي للكتاب"
الخطوة التي لم تفاجئ كثيرين أعادت التساؤل عن السبب وراء حرص الرئيس على افتتاح هذه المشروعات، وعدم ذهابه إلى أقدم وأعرق معرض للكتاب في الشرق الأوسط، بعد معرض بيروت. فمنذ أن جاء السيسي إلى الحكم في صيف 2014 سجّل بغيابه عن معرض الكتاب استثناءً تفرّد به عن نظرائه السابقين في الأربعة عقود الماضية. فإذا كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يشهد عصره إلا دورتين للمعرض، لم يحضر افتتاحهما، وكذلك سار على نهجه الرئيس الراحل السادات، فإن الرئيس الأسبق حسني مبارك رسّخ لطقوس رئاسية في افتتاح المعرض منذ عام 1986، وظل حريصًا على هذا الفعل حتى تدهورت صحته مع نهاية فترة حكمه، وكان يحرص على لقاء "بعض" المثقفين على هامش المعرض، ولم يغب مبارك عن الافتتاح إلا عامي 2003 و2009.
اقرأ/ي أيضًا: معرض الجزائر للكتاب.. كأن شيئًا ينقص
وكان مبارك حريصًا على حضور المعرض وافتتاحه، بشكل ربما يظنه البعض مبالغًا فيه، حتى إنه في الأسابيع التي سبقت ثورة "25 يناير" والدعوة المصاحبة للتظاهر، كان مبارك حريصًا على الاتصال بوزير الثقافة حينذاك فاروق حسني، والتأكيد عليه أنه سيحضر بنفسه افتتاح المعرض، الذي كان مقررًا له أن يبدأ في 29 كانون الثاني/يناير 2011، حسبما صرّح حسني في أحد الحوارات معه بعد الإطاحة بمبارك. ومع رحيل مبارك عن الحكم، ومجيء محمد مرسي ثم الرئيس المؤقت عدلي منصور، استمر تقليد افتتاح رئيس الجمهورية للمعرض في دورته التي حلّت في عهده، حيث افتتح مرسي الدورة الرابعة والأربعين في كانون الثاني/يناير 2013، وافتتح منصور دورة العام التالي.
وفي حين نجد هذا الحرص من رؤساء مصر السابقين على حضور افتتاح المعرض، لما له من دلالة على اهتمام القيادة السياسية بالشأن الثقافي والمثقفين، وإدراك أهميتهم وأهمية الثقافة في عملية التنمية والتقدم، يكسر السيسي هذا البروتوكول للمرة الثالثة على التوالي في هذا العام ليحافظ على هذا الغياب منذ 2015!
سارع بعض المدافعين عن الرئيس في تقديم الحجج والتبريرات التي تعفيه من حضور افتتاح المعرض، لارتباطه بالتواجد حاليًا موجود في أسوان لحضور المؤتمر الدوري للشباب، ولكن حقيقة المفارقة التي يكشفها شعار الدورة الحالية من معرض الكتاب "الشباب وثقافة المستقبل"، جعلت بعض الأصوات تشير إلى أن هذا الشعار كان كافيًا ليعكس اهتمام الرئيس المعلن بالشباب، فيدمج اهتمام الشباب باهتمام الرئيس بالثقافة، ولكن يبدو أن هذا غير حاضر في ذهن القيادة السياسية. الأمر الآخر الذي يشير إليه أصحاب هذا الرأي هو أن موعد افتتاح المعرض معلوم للجميع قبل عدة أشهر، فمن الطبيعي أن يحدد مكتب الرئيس مواعيده والتزاماته طبقًا لموعد افتتاح المعرض.
تجاهل السيسي لمعرض الكتاب، أعطى مؤشرًا دالًا على تراجع الثقافة في قائمة أولويات النظام الحاكم
تجاهل السيسي لمعرض الكتاب، أعطى مؤشرًا دالًا على تراجع الثقافة في قائمة أولويات النظام الحاكم، وجعل بعض المثقفين يأسفون لرؤية اهتمام ونشاط رئيس الجمهورية في حضور وقائع ومعارض ومؤتمرات ومشروعات ليس من ضمنها معرض الكتاب، في وقت يشهد مجال النشر في مصر أزمة حقيقية لاعتبارات عديدة، منها حقوق الملكية الفكرية غير المحمية حتى الآن في القانون المصري، بخلاف ارتفاع أسعار الورق إلى أكثر من الضعف في الفترة الأخيرة، على غرار ارتفاع الأسعار في كل السلع، وهو ما يهدد تلك الصناعة الهامة في "تشكيل وعي وعقول ووجدان الشباب المصري" الذي يحرص الرئيس على اللقاء به شهريًا!
اقرأ/ي أيضًا: معرض الكتاب في الجزائر.. الحج إلى المعرفة
ولا تفوت الإشارة إلى أن تجاهل السيسي حضور افتتاح المعرض والالتقاء مع المثقفين والمبدعين، يعود في المقام الأول إلى عدم اهتمام بالثقافة والمثقفين، بحسب البعض، وعدم إدراك لدور حيوي وهام من المفترض أن يلعبوه في قضية تجديد الفكر الديني التي طالما أكد عليها الرئيس السيسي مرارًا وتكرارًا، وهو ما يعكس "عدم إدراك من القيادة السياسية لأبعاد ومحددات الصراع الفكري الدائر بين الأصوليين والحداثيين حول تجديد الفكر الديني". وبإكمال الدائرة، فإنه بغياب المثقفين وتهميشهم وتجاهلم وسجنهم فإن المجال العام يُترك للأصوليين يرتعون فيه كما يشاؤون ليستمروا في ممارسة هوايتهم في تجهيل الجماهير وتغييب وعيها، ومن ثم فإن الحديث عن تجديد الفكر الديني في ظل هذه المعادلة كمن يحاول أن ينقش على الماء!
تساؤلات أخرى تأتي عن علاقة السيسي بالثقافة والمثقفين، وهل يراهم كما كان يراهم الرئيس الراحل أنور السادات كـ"أفندية أرازل"؟ أم يراهم كما كان يراهم مبارك كـ"وردة جميلة في عروة بدلته"؟ أم هو لا يراهم من الأساس؟ والحقيقة أن موقف السيسي من المثقفين غير واضح، فهو التقى عددًا من "المثقفين والكتاب" بشكل رسمي مرة أو مرتين على الأكثر منذ تولية رئاسة الجمهورية، ولكن لم يُعرف عنه أي اهتمامات بالثقافة أو بالكتاب، وربما المرة الوحيدة التي تحدث فيها عن اهتماماته الثقافية كان في آب/أغسطس 2016 عندما ذكر أن آخر كتاب قرأه كان للكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، مضيفًا أنه "يفضل القراءة لأنيس منصور وموسى صبري وجمال حمدان"، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يعلن الرئيس المصري عن الكُتّاب المفضلين لديه باختياره لأربعة كتاب مصريين كبار ولكن متناقضين، فهيكل وحمدان في اتجاه، وأنيس منصور في اتجاه آخر، والشخص الذي يستطيع الجمع بينهم هو شخص موسوعي القراءة، أما موسى صبري فكان صحفيًا أكثر منه كاتبًا أومفكرًا، وله عدد محدود من الكتب أغلبها كان له طابع الذاتية.
خطابات السيسي لا توحي أبدًا بكونه شخصًا مشغولًا بالقراءة أو مهتمًا بها
كما أن خطابات السيسي لا توحي أبدًا بكونه شخصًا مشغولًا بالقراءة أو مهتمًا بها، فلم نسمعه يومًا يستعين بمقولة لأديب أو أبيات شعرية أو يسترجع واقعة تاريخية في إحدى خطابات المكتوبة أو المرتجلة، وهو أمر يتضح فورًا عندما ينفتح في أحاديثه، وهو أمر ربما يجب أن ينتبه إليه الرئيس المصري لأنه يمثل شيئًا مهمًا بالنسبة لواحد من كُتّابه المفضلين، ففي كتابه "خريف الغضب" يضع محمد حسنين هيكل عدة فوارق بين الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات، لكنه يعتبر أن فارقًا وحيدًا يمكن أن يكون جوهريًا بين الشخصيتين وهو "الفرق بين رئيس يقرأ حتى ما ليس هناك ضرورة لقراءته، ورئيس لا يقرأ حتى ما تقتضي الضرورة قراءته".
اقرأ/ي أيضًا: معرض الكويت للكتاب.. سيف الرقابة ورقبة الإبداع
وبعيدًا عن التساؤلات والانتقادات بشأن غياب السيسي عن افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، وجد بعض الكتاب الحريصين على صورة السيد الرئيس ضرورة مناشدة سيادته لتلافي هذا الغياب في الدورة القادمة، والتي ستكون الدورة الأخيرة للمعرض قبل انتهاء مدة ولايته الرئاسية، لأن غيابه للمرة الثالثة على التوالي "لا يمكن أن يُترك دون أن يفسَّر ويؤوَّل تأويلًا لن يكون في صالحه"، ولم ينس هؤلاء "الكُتَّاب الشرفاء" تذكير الرئيس بأن الفرصة لا تزال موجودة لتصحيح هذا "الخطأ"، وذلك بمحاولة تنظيم لقاء في الأسبوع القادم ومن قلب المعرض، بين الرئيس والمثقفين والمبدعين والأدباء والناشرين "لعل وعسى أن يمحو هذا اللقاء الآثار السلبية لغياب الرئيس عن افتتاح المعرض".
اقرأ/ي أيضًا: