احتكرت فرنسا لسنوات طويلة النفوذ في أفريقيا، نتيجة تاريخها الاستعماري، لكن في الآونة الأخيرة يظهر تصدع النفوذ الفرنسي، مما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إعلان استراتيجية دبلوماسية وعسكرية جديدة لأفريقيا.
خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بماكرون، انتقد رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي، مواقف فرنسا الرسمية، واعتبرها تدخلًا في شؤون بلاده
تجليات أفول فرنسا في أفريقيا، ظهرت في المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الفرنسي مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، في ختام جولته 18 في أفريقيا، والتي قادته إلى 4 بلدان، هي الكونغو والغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بماكرون، انتقد رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي، مواقف فرنسا الرسمية، واعتبرها تدخلًا في شؤون بلاده، قائلًا: "لماذا تختلف رؤية الأشياء حين يتعلق الأمر بأفريقيا، لماذا لا تتحدثون عن تسوية أمريكية مثلًا حينما تكون هناك مخالفات في الانتخابات الأمريكية، أو تسوية فرنسية حين تحدث مخالفات في الانتخابات الفرنسية، خصوصًا زمن شيراك؟". وساد جوّ من التوتر، بعد أن مد تشيسيكيدي أصابعه نحو ماكرون، قائلاً: "هذا أيضًا يجب أن يتغير في طريقة التعاون بين فرنسا وأوروبا عامة، والكونغو الديمقراطية.. انظروا إلينا بطريقة أخرى، باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات".
وجاء الرد الفرنسي، حين قال ماكرون إن "هذه الأمور تحدث فعلًا في فرنسا، لكن الفرق أن الصحافة تتحدث وتندد"، مؤكدًا أن "أي صحفي يطرح سؤالًا فهو يمثل وجهة نظره هو، ولا يعني الحكومة بشيء"، وهو ما أثار حفيظة الرئيس الكونغولي الذي رد بلهجة حادة: "ولكني تحدثت عن لودريان الذي كان وزيرًا للخارجية"، في إشارة لتصريح وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لودريان، في عام 2019، حين أشار إلى أن نتائج انتخابات الرئاسة في الكونغو الديمقراطية كانت مرتبة، بين الرئيس السابق جوزيف كابيلا والرئيس الحالي فيليكس تشيسيكيدي، ولا علاقة لهيئة الانتخابات في البلاد بالموضوع.
وحاول الرئيس الفرنسي، التأكيد على أن "جمهورية الكونغو الديمقراطية، يجب ألا تكون غنيمة حرب، يجب أن يتوقف النهب المكشوف للبلاد". مشددًا على ثلاثة نقاط وهي "لا للنهب، ولا للبلقنة، ولا للحرب!"، في إشارة لأعمال العنف المستمرة شرقي البلاد والتي تشهد حركة تمرد، وتحاول فرنسا التوسط لإنهاء الصراع.
وكان الرئيس الفرنسي، قد أكد من العاصمة الغابونية ليبرفيل، أن فرنسا أصبحت اليوم "محاورًا محايدًا في القارة الأفريقية داعيًا إلى شراكة جديدة"، وخاطب الرئيس الفرنسي أفراد الجالية الفرنسية في الغابون، قائلًا: "انتهى عصر فرنسا الأفريقية".
وزعم ماكرون "أحيانًا يتولد لدي شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا نفسها عندما أقرأ وأسمع وأرى أنه ما زالت تنسب لفرنسا نوايا ليست لديها، ولم تعد لديها"، على حدِّ قوله. وأوضح ماكرون "في الغابون كما في أي مكان آخر، فرنسا محاور محايد يتحدث إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في النزاعات السياسية الداخلية"، في إشارة للاتهامات التي أطلقتها المعارضة الغابونية بأن الهدف من وراء الزيارة هو إظهار الدعم للرئيس علي بونغو، في وقت تستعد البلاد لتنظيم الانتخابات.
ما الذي تريده فرنسا؟
خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده ماكرون في باريس قبل جولته الأفريقية، أكد أن النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا انتهى، داعيًا إلى "شراكات جديدة في القارة بعيدًا عن العلاقات المبهمة وعن دعم القادة الحاليين". وكرر ماكرون رغبة بلاده في "بناء شراكة متوازنة، والعمل على القضايا المشتركة مع بلدان القارة، سواء تعلق ذلك بالمناخ، أو التنوع البيولوجي، أو التحديات الاقتصادية والصناعية للقرن الحادي والعشرين".
وأكد الرئيس الفرنسي، قبل بدء زيارته إلى أفريقيا، على رؤية بلاده "الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه مستعمراتها السابقة"، حيث أعلن أن بلاده ستقوم تدريجيًا بإدارة قواعدها العسكرية في القارة الأفريقية بالاشتراك مع الدول التي تستضيف تلك القواعد"، مشيرًا إلى أنه سيتم تقليص وجود القوات الفرنسية، وخفض عدد الجنود، ولكنه أوضح بأن هذه القواعد لن تغلق بل سيعاد تنظيمها، لتصبح "أكاديميات جديدة"، ستبدأ تدريجيًا في التحول إلى "أفريقية"، وتُدار بالتعاون مع "شركاء أفارقة وأوروبيين"، على حد قوله، مضيفًا: "القواعد كما هي الآن تراث من الماضي".
النفوذ الفرنسي في مواجهة النفوذ المستجد
في خطابه حول الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في أفريقيا، دعا الرئيس الفرنسي إلى التحلّي بـ"التواضع والمسؤولية"، رافضًا "المنافسة الاستراتيجية التي يفرضها من يستقرون هناك مع جيوشهم ومرتزقتهم".
تأتي هذه الاستراتيجية الجديدة، بعد تراجع ملحوظ لنفوذ فرنسا في أفريقيا، مقابل تزايد نفوذ الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا بدرجة أقل. كما شهدت باريس انهيار علاقاتها مع العديد من الدول التي سبق استعمارها، لصالح نفوذ روسيا، التي قدمته من خلال شراكة أمنية، كان شكلها تزايد وجود مرتزقة فاغنر بالقارة، وتحديدًا في دول مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، حيث تمركزت القوات الفرنسية لسنوات. فيما شهدت العلاقات مع الصين انتعاشًا كبيرًا، التي أصبحت الشريك الاقتصادي الأول في أفريقيا.
ويرفض ماكرون الحديث عن تنافس مع روسيا والصين، لكنه يتحدث بلهجة استعمارية، قائلًا: "في يوم من الأيام سوف يفهم الأفارقة أن خصومهم هم في الواقع المرتزقة الروس والمستثمرين من الصين، أكثر بكثير من المستعمرين الأوروبيين السابقين". وتتهم باريس روسيا بتغذية النزعات المعادية لها في القارة، رغم تاريخها الاستعماري الطويل.
ماذا بقى لفرنسا في القارة؟
تملك فرنسا ارتباطًا ماليًا مع أفريقيا من خلال التحكم في اقتصاديات عدة دول أفريقية عبر الفرنك الأفريقي "Franc CFA"، والذي يستخدم كعملة في منطقتين نقديتين مختلفتين في أفريقيا منذ العام 1945، وهما الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا "WAEMU" والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا "CEMAC"، وتمتلك باريس اتفاقات تعاون نقدي معها، بالإضافة لاتحاد جزر القمر.
والدول التي تستخدم الفرنك الأفريقي هى 14 دولة ما بين دول منطقة الاتحاد النقدي لغرب أفريقيا ودول منطقة الاتحاد النقدي لوسط أفريقيا، ويقدر خبراء بأن دول هذه المجموعات تدفع نسبة تفوق 50% من احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية.
يحاول الرئيس الفرنسي تقديم استراتيجية جديدة لفرنسا من أجل التعامل مع أفريقيا
أما اقتصاديًا، فقد كانت فرنسا تتمتع بحضور اقتصادي وتجاري قوي في القارة، حيث تستثمر أكثر من 1100 مجموعة استثمارية فرنسية عملاقة، وحوالي 2100 شركة كبيرة، وكانت فرنسا هي ثالث مستثمر في القارة السمراء لكن هذا الحضور تراجع بشكلٍ قوي، بعد دخول الصين على خط الشراكة الاقتصادية لتصبح الشريك الأول للدول الأفريقية، كما أصبحت تركيا شريكًا منافسًا في عدد من الأسواق التي كانت تتمتع فيها فرنسا بنفوذ تقليدي.