أتحدث الآن عن الشاعر محمود البريكان الذي قُتل نهاية عام 2002، وكأنّ العراق "الجديد" لا يستقيم بلا مقتل شاعر مهم مثله.
شاعر معروف طبعًا، وعندما أقول: لا يعرفه أحد لا أعني أنه مجهول أو نكرة، بل إنه يستحق أكثر من صورته الضبابية ومكانته المرسومة في شعرنا الحديث، حيث النسيان دأب الذاكرة النقدية اللامبالية، الكسولة، المتواطئة، المشغولة بالإعلام لا بالثقافة، بالنجوم لا بالمؤثرين.
قصيدة البريكان، رغم بنيتها التقليدية، خارجيًا: لجهة الوزن والقافية، بموجب أطروحة الشعر التفعيلي الحديث، قصيدة مختلفة. قصيدة فكرة تخترق الفكرة وتحاجج برؤية فلسفية
أشيعَ إنه أودع قصائده في البنك كثروة. إذا صح هذا فهو محق وسط ثقافة عرضة للسطو والاستنساخ والتغييب.
قصيدة البريكان، رغم بنيتها التقليدية، خارجيًا: لجهة الوزن والقافية، بموجب أطروحة الشعر التفعيلي الحديث، قصيدة مختلفة. قصيدة فكرة تخترق الفكرة وتحاجج برؤية فلسفية شخصية لتنأى بنفسها عن المتداول، المتشابه، سريع الذوبان.
ثمة شعراء نجوم، في عالمنا العربي، لكنهم غير مؤثرين في الأجيال التالية لهم أو المخضرمين معهم. لنضرب مثلًا نزار قباني الذي أثر في قراء كثيرين و"قارئات" أكثر!، لكنه لم يؤثر في شعراء، وهذا رأي طبعًا.
شاعر ابن العزلة وأبوها، لم تغوه المهرجانات ولا الندوات ولا النشر في الصحافة، كأن قصيدته حوار بين اثنين لا ثالث لهما: هو وقصيدته.
بخلاف بدر شاكر السياب توفرت للبريكان بيئة ثقافية منزلية ميسورة، إلى حد ما، عدا تجارة جده وأبيه، فثمة مكتبة منزلية، وهذا من النادر في خمسينات القرن الماضي.
السياب كان معجبًا بشعر البريكان وهذا واضح من ردود فعل السياب عندما كانا يتبادلان قراءة قصائدهما.
العزلة موقفًا. اختارها البريكان حتى مقتله. لم يكن لائقًا للأضواء والضجيج، ولا للمجاملات والاحتفاءات والاحتفالات. كان مسكونًا بالشعر البوحي، كمن يكلم نفسه، أو كالسائر في نومه (المسرنم) الذي يغادر سريره ليبلغ الشرفة وكأنه على وشك القفز إلى كواكب بعيدة.
العزلة اكتفاء القصيدة بالبعد الضروري بينها والجموع.
يقول: "قدّمتموا لي منزلًا مزخرفًا مريحْ/ لقاء أغنية/ تطابق الشروطْ/ أوثر أن أبقى على جوادي/ وأهيم من مهب ريح/ إلى مهب ريح".
هي القصيدة عندما تؤثر البقاء في المطلق الشعري الذي لا يطابق الشروط.
تابعت البريكان منذ سبعينياتي، على ما توفر لي من مظان ومنشورات قليلة، لأجد فيه ذلك الاختلاف الباهر بين أقرانه، من سبقوه ومن عاصرهم ومن جاء بعده، شاعر مدينة، رغم أنه ابن الزبير، ومدينيته هي ثمرة رؤيته الشعرية لا انتماؤه الجغرافي.
قصيدة المدينة فضاء مفتوح على أسئلة الإنسان بشأن الكون والعالم، وهي تخترق جدران الإسمنت و"شروط" الأطر الموضوعة، بعيدًا عن عواطف الريف ولغة القرية التي تضيق بأوجاع البشر مهما تجرأت أحلامهم على اختراق النوم واليقظة، وفي قصيدة السياب، صديقه، وآخرين من مجايليه، الكثير من عواطف القرية وطبيعتها.
لا انتقاص هنا من الشعراء الذين استلهموا القرية و"ثقافتها" إنما هو إشارة إلى اختلاف البريكان، لا أكثر، فثمة عدد من الشعراء، عراقيين وعربًا وأجانب، استغرقتهم عذابات قراهم وأريافهم وكتبوا فيها وعنها شعرًا مهمًا.
البريكان، حسب شعراء ونقاد عرفوه والتقوه، لم تعزله عزلته عن العالم وشعره وشعرائه، فهو يعرف أبرز تجارب العالم الشعرية وله آراء مهمة فيها، وأتاحت له لغته الإنجليزية الاطلاع على آخر تجارب الشعر والموسيقى والرسم في العالم، إذ كان خطاطًا ورسامًا أيضًا.
في قصيدة "خطّان متوازيان" يقول البريكان:
"يندفع الرصيفْ/ إلى المدى، حافته الدكناء صخريّة
تعكس أضواءً رصاصية/ ترسم خطًّا ذاهبًا عنيفْ
إلى المدى/ يندفعُ الرصيفْ/ مندفعًا بألفِ مصباحٍ لها رفيفْ/ وخضرة في جنّة الليل الخرافيّهْ/ ترسم خطًّا غامضًا خفيفْ/ إلى المدى/ وفوق أرضِ الشارعِ الكبيرْ/ ظِلٌّ وإنسانٌ وحيدٌ يسيرْ".