يقول عبد الرحمن منيف في معرض حديثه عن مدينة عمان في "سيرة مدينة": "إن المكان في حالات كثيرة ليس حيزًا جغرافيًا فقط، فهو أيضًا البشر، والبشر في زمن معين.. فالمكان يكتسب ملامحه من خلال البشر الذين عاشوا فيه، والبشر هم تلخيص للزمن الذي كان وفي مكان محدد بالذات، وبالتالي فقد اكتسب الناس ملامح وصفات ما كانوا ليكتسبوها لولا هذه الشروط. وحين أصبحت لهم هذه الصفات أثروا في المكان والزمان كما تأثروا بهما، مما ينعكس في النتيجة في إعطاء الأماكن والأزمنة ملامحها."
وإن كان منيف يتحدث هنا عن الناس والأماكن والأزمنة كما نتذكرهم، فالعلاقة بين العناصر الثلاثة حقيقية وأساسية في التصميم الحضري وتصميم المدن، إذ عادة ما يعرف التصميم الحضري من خلال مهامه في توفير بيئة يتاح للناس فيها الحصول على ما يجعل حياتهم أيسر وأسعد، فهل يهدف تصميم عمّان حقًا لإسعاد أهل المدينة أو لجعل حياتهم أسهل؟ وإلى أي مدى يأخذ تصميم المدينة بعين الاعتبار بنية المجتمع ككل والتباينات بين فئاته ليقلل من الفجوات الناجمة عن هذه التباينات؟
عادة ما يعرف التصميم الحضري من خلال مهامه في توفير بيئة يتاح للناس فيها الحصول على ما يجعل حياتهم أيسر وأسعد.
شوارع لزمن آخر
في كل صباح، يخرج عشرات الآلاف من سكان عمان الذين يقدر عددهم بحوالي أربعة ملايين شخص، للعمل والدراسة في الوقت ذاته تقريبًا، ويعودون إلى منازلهم في وقت واحد أيضًا، لتنتج عن الحركة الجماعية المتزامنة هذه ضمن حوالي 800 كم2، أوقات ذروة تختنق فيها شوارع المدينة بأزمات مرورية لا يمكن تجنبها، إذ إن التفكير بسلوك طرق داخلية أو التفافية لن يجدي في كثير من الحالات في عمان التي بنيت على سبعة جبال في زمن لم تكن فيه الشوارع لتشهد حركة مرورية لتصمم الشوارع بالتناسب معها.
يلقي تقرير لإدارة السير المركزية بجزء كبير من اللوم على الازدحامات المرورية في وقوع حوادث السير. كما يكشف التقرير السنوي للحوادث المرورية عن زيادة مستمرة في أعداد الحوادث تتناسب طرديًا مع ازدياد المركبات في الشوارع.
يقول المهندس أنس قطان، المستشار السابق في أمانة عمان الكبرى والذي يعد أحد أوائل مهندسي التخطيط في عمان، إن جهود التخطيط في المدينة لم تبدأ حتى مطلع السبعينات. وقتها كانت عمان قائمة بالفعل على مساحة 60 كم2 تقريبًا، وكان على مهندسي التخطيط التعامل مع الوضع القائم، ناهيك عن التعامل مع الطبيعة الجبلية الصعبة للمدينة التي شكلت عائقًا مهمًا أمام تنظيم الشوارع.
بعد ذلك، ومع تضاعف أعداد السكان في عمان، ضُمت تدريجيًا مناطق واسعة لحدودها حتى وصلت مساحة المدينة حاليًا إلى 800 كم2، وفقًا لموقع أمانة عمان الكبرى. وقد تمثلت سياسة التخطيط في الثمانينات في محاولة خلق بؤر أخرى للسكن والعمل، وكان التوجه أن تُخلق هذه البؤر الجديدة غربًا لتخفيف الضغط عن وسط المدينة.
هذا من ناحية تخطيط الشوارع، أما من ناحية شبكة المواصلات فتشير دراسة حديثة إلى أن 48% فقط من المناطق في حدود أمانة عمان الكبرى مرتبطة بشبكة مواصلات تبتعد عنها بمعدل 300 متر، أي أن القاطنين في هذه المناطق يحتاجون إلى ما معدله تسع دقائق مشيًا للوصول إلى إحدى وسائل المواصلات، في حين أن 64% من المناطق يحتاج قاطنوها إلى ما بين 6 إلى 15 دقيقة مشيًا للوصول إلى إحدى وسائل النقل. كما تشير الدراسة نفسها إلى أن الرحلة الواحدة في أي من وسائل النقل تستغرق ما معدله 35 دقيقة.
وإن لم يكن ما سبق كافيًا لدفع الناس بعيدًا عن المواصلات العامة، فلا بد أن المخاوف المتعلقة بالسلامة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النقل وضعف جودة أدائها، وعدم التزامها بمواعيد واضحة ومحددة، لا بد أن كل ذلك ساهم في لجوء الناس قدر المستطاع لوسائل نقلٍ خاصة، إذ لا تزال الحلول الأخيرة المتمثلة بباص عمان ومشروع الباص السريع غير كافية وغير قابلة للتطبيق في الأحياء الضيقة، رغم تمخضها عن نتائج واعدة. وهكذا ازدادت أعداد المركبات في الشوارع الضيقة والمزدحمة أصلًا، وتزداد تبعًا لذلك الحوادث الناتجة عن "أخطاء بشرية".
تخطيط يعزز التباينات
بالعودة إلى ما ذكر آنفًا عن التوجه في الثمانينات لخلق بؤر أخرى للسكن والعمل في الغرب بهدف تخفيف الضغط عن وسط المدينة، لا بد هنا أن نذكر أن ما حصل بعد ذلك تمثل في تركيز النشاطات الاقتصادية الحيوية الحديثة في مناطق البؤر الجديدة في غرب عمان، في حين شهد شرق المدينة شبه فراغ من رؤوس الأموال أنتج لاحقًا وبشكل تدريجي أحياءً مهمشة تتركز فيها جيوب الفقر.
ثم نتجت بعد ذلك عن حركة رؤوس الأموال فضاءات حديثة معولمة، وأخرى تقليدية قديمة، كما أصبح لكل منها- رغم تجاورها وووجودها ضمن مساحة جغرافية ضيقة نسبيًا- روادٌ وأنماطُ معيشة واهتمامات متباينة وصلت حد الاستقطاب الاجتماعي، كما يؤكد الباحث ضرغام اشتية في بحثه "الفضاءات العامة في مدينة عمان: بين التنوع الحضري والتباين الاجتماعي".
تقول الباحثة وأستاذة الهندسة المعمارية، آية مسمار، إن معايير الجمال في عمان نخبوية ومحصورة بأيدي الفئات الميسورة، الأمر الذي يجعل عشوائية نمو أجزاء مهمشة من المدينة أمرًا مفروغًا منه. ومن ناحية أخرى، فإن التباينات الناتجة بفعل ذلك تتعزز عندما تتحول إلى بيئة مبنية، "فتخيل مثلًا أنك تعيش في مكان لا تتوفر لديك فيه مياه ساخنة أو مياه جارية، وأنك تستيقظ كل يوم لترى مقابلك على الجانب الآخر من المدينة أبراجًا بواجهات زجاجية براقة يعيش فيها أشخاص منعمون على عكسك... لا بد أن ذلك سيولد نوعًا من الغبن لديك وسيزيد من التفرقة الاجتماعية."
وتضيف مسمار أن المبدأ الذي يسري حاليًا عند التصميم في عمان أو التخطيط لها لا يلتفت إلى حل مشاكل الناس، مع أن ذلك هو جوهر علم تخطيط المدن والهدف الأساسي الذي أنشئ من أجله، بل يركز على تقديم صورة براقة ومثالية للعالم عن المدينة وعن حركة الاستثمارات فيها فقط، وعلى حساب ساكنيها.
هكذا، يبدو جليًا أن التخطيط الحضري في عمان فقد غايته وبات أداة يتداخل فيها رأس المال مع السياسة، ويغيب عنها الناس ومصالحهم، في محاولة شاذة، وربما غير مقصودة، للفصل بين الناس والأمكنة، لتزداد بذلك حدة المفارقات والتباينات التي تسيطر على المشهد العام للعاصمة، وليستمر بؤس الناس بالطفو على وجه المدينة على شكل شوارع وأحياء.