أراد الحلفاء بعد استسلام اليابان وانتهاء الحرب العالمية الثانية، عقد محاكمات للمسؤولين السياسيين والعسكريين اليابانيين شبيهة بمحاكمات نورمبيرغ في ألمانيا لمحاكمة المسؤولين النازيين. وفي 19 كانون الثاني/يناير عام 1946، أُسِّست المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى بأمر من الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر، الحاكم العسكري لليابان، الذي وافق في اليوم نفسه على ميثاق المحكمة المُثير للجدل.
حدَّد ميثاق المحكمة 3 أنواع من الجرائم لينظُر فيها القضاة ويُحاكم عليها المسؤولون اليابانيون: جرائم ضد السلام أو جرائم شن حرب عدوانية، وجرائم الحرب التقليدية، والجرائم ضد الإنسانية. وعلى العكس من الجريمتين الأخيرتين، كانت الجريمة الأولى مثار نقاش وخلاف بين قضاة المحكمة لأنها لم تكن موجودة في القانون الدولي أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا النقاش والجدل الذي رافقه هو موضوع مسلسل "محاكمة طوكيو" (2016) الذي عُرض على منصة "نتفليكس" مؤخرًا.
استند ميثاق المحكمة إلى معاهدة باريس لعام 1928 التي تنص مادتها الأولى على إدانة الحرب كوسيلة لتسوية الصراعات الدولية. وتألَّفت المحكمة في بدايتها من 9 قضاة يمثِّلون 9 دول: الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والصين، والاتحاد السوفييتي. ثم انضم لها لاحقًا قاضٍ هندي وآخر فلبيني بهدف زيادة تمثيل آسيا في المحكمة التي يُهيمن عليها المنتصرون.
يركّز المسلسل على خلاف قضاة محكمة طوكيو التي عُقدت لمحاكمة المسؤولين اليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية ونقاشاتهم حول ثغرات ميثاق المحكمة التي تقوّض شرعيتها قانونيًا
تظهرُ أولى إشكاليات المحكمة في الطريقة التي اعتُمِدت لتحديد أسماء المتهمين وتوجيه الاتهامات لهم أيضًا، ثم في إعفاء الإمبراطور الياباني والعائلة المالكة عمومًا من المحاكمة بقرار أميركي لاعتبارات سياسية متعلقة بمكانة العائلة الحاكمة لدى اليابانيين، وحاجة الأميركان لها لترتيب مرحلة ما بعد الحرب في اليابان.
وعلى أهميتها، تجاوز القضاة هذه الإشكاليات كما تجاوزوا إشكاليات أخرى متعلقة بمسألة أن القتل في الحرب مشروع لأن الحرب نفسها مشروعة بحسب فريق الدفاع الياباني، ومحاجة أحدهم بأنه إذا كانت المحكمة مهتمة بمحاسبة المسؤولين اليابانيين على جرائم القتل، فإنه لا بد من محاكمة الأميركان الذين قتلوا عشرات آلاف المدنيين اليابانيين.
وسيتضح فيما بعد أن هذه الإشكاليات عابرة أمام الإشكاليات الكُبرى المتعلقة بجريمة شن حرب عدوانية، حيث أصبحت أكثر إلحاحًا وإثارةً للجدل بعد انضمام القاضي الهندي بال الذي رأى أنه يجب التخلي عن تهمة شن حرب عدوانية لأنها لم تكن موجودة أثناء الحرب، ولا يمكن تطبيق قانون لم يكن موجودًا أثناء ارتكاب الجرائم التي يريدون محاسبة مرتكبيها بناءً على القانون نفسه.
ولأن حجته تستند إلى مبدأ قانوني لا يمكن تجاوزه، حاول بعض القضاة التصدي للقاضي الهندي بالمزايدة واتهامه بتجاهل آلام ومعاناة سكان الدول التي احتلها اليابانيون ونيته تبرئة المسؤولين عنها، وخلق مناخ شعبوي قائم على اتهامهُ بالتعاطف مع المتهمين لتقويض حجته.
لكنه ظل متمسكًا برأيه لأنه يستند إلى أُسسٍ قانونية متينة تقوِّض شرعية المحكمة وميثاقها، خاصةً أن المعاهدة التي بُنيَ عليها الميثاق، معاهدة باريس، نصّت على إدانة شن الحروب لكنها لم تقترح عقوبات أو تعتبرها جريمة، ما يجعل من استثناء هذه التهمة ضرورية لعدم وجود سبب قانوني لها، ولأنه لا يمكن – قانونيًا – اختلاق قوانين عند الرغبة.
وأمام الحجج القانونية المتينة التي قدّمها بال، انحدر بعض القضاة في مواجهه إلى ما دون القانون، وتحديدًا إلى العرق، حيث تعامل بعضهم معه على أنه أقل مرتبة منهم عرقيًا، وهنا بدأت تظهر الروح العنصرية والاستعمارية في محكمة يُفترض أنها تنشد تحقيق العدالة وإنصاف الشعوب التي عانت من الاحتلال الياباني، والمفارقة أن بريطانيا وهولندا وفرنسا كانت لا تزال حاضرة بوصفها قوى استعمارية في عدة دول آسيوية.
يسخر بال من هذه المفارقة ويذكِّر القاضي الهولندي بها في حوار بينهما يتساءل بال خلاله عن مدى مصداقية نية دول الحلفاء تحقيق العدالة في طوكيو بينما لا تزال معظم الدول الآسيوية مستعمرة من قِبل الغرب، كما لا يزال التمييز العنصري وانعدام المساواة أساس سلوك الدول الغربية في التعامل مع الآخر؟
تبقى هذه التساؤلات دون إجابة في ظل هيمنة الحلفاء على المحكمة، التي تنتقل من مرحلة النقاشات إلى تدبير المكائد التي ستطيح، مؤقتًا، برئيسها الأسترالي الذي رأى قضاة أميركا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا أنه أضعف من أن يتولّى هذه المسؤولية لأنه لم يضع حدًا للقاضي الهندي، ويعجّل في إقرار الأحكام بحق المتهمين.
ومع أن المحكمة في النهاية توصّلت إلى أحكام معيّنة، ودون إجماع، لكنها لم تستطع تجاوز ومعالجة الثغرات القائمة المتعلقة بالتهمة الأولى، وغياب أسباب قانونية، وفرض أخرى جديدة اعتباطيًا. عدا عن مسألة أن من يُحاكم اليابان ليست الدول المنتصرة فقط، بل الدول التي تستعمر معظم آسيا.