قُتل الطيار العسكري الروسي المنشق مكسيم كوزمينوف رميًا بالرصاص ببلدة إسبانية، الأسبوع الماضي، في عملية تحوم حولها شبهات بوقوف جهاز المخابرات الخارجية الروسية وراءها.
ونقلت وسائل إعلام إسبانية عن مصادر في الشرطة قولها إنّ "المحققين تعاملوا مع جريمة القتل منذ البداية على إنها تصفية حسابات"، بالنظر إلى أنّ الضابط الروسي المنشق أصيب بستة طلقات نارية 6 على الأقل في مرآب للسيارات تحت الأرض. وتم دهسه بسيارته التي استخدمها الجناة للفرار.
وكان كوزمينوف يعيش في بلدة فيلاجويوسا الجنوبية بالقرب من مدينة أليكانتي الإسبانية، التي وصلها قادمًا من أوكرانيا بجواز سفر أوكراني يحمل اسمًا مستعارًا.
هروب لم يقدم حصانة
فر الطيار المنشق من روسيا، في آب/أغسطس الماضي، على متن طائرة مروحية عسكرية من طراز "Mi-8" مجهزة تجهيزًا كاملًا، وهبط في مطار عسكري أوكراني، فيما قتل اثنان من أفراد طاقم المروحية أثناء محاولتها الفرار بعد هبوط الطائرة.
واحتفت أوكرانيا بكوزمينوف. قدمت له "تعويضات مالية"، بالإضافة لضمانات أمنية واسعة.
قتل كوزمينوف بوابل من الرصاص ثم دهست جثته بسيارته الخاصة، لكن الهجوم "افتقر إلى اللمسات المتقنة المرتبطة في كثير من الأحيان بعمليات الاغتيال الروسية"
وتعليقًا على خبر مقتل الطيار الروسي المنشق، نقلت وسائل إعلام روسية عن مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين، قوله إنّ "كوزمينوف كان جثة أخلاقية عندما خطط لجرائمه".
هل دفع كوزمينوف حياته ثمنًا لانشقاقه؟
بدت البلدة التي استقر فيها الطيار الروسي على الساحل الإسباني عالمًا بعيدًا عن الحرب، هكذا اعتقد كوزمينوف. لكن اكتشاف جثته المليئة بثقوب خلفتها طلقات رصاص الأسبوع الماضي، قدم إشارة جديدة لتهديدات موسكو مفادها أنّ أولئك الذين يفرون، بغض النظر عن المسافة التي يبتعدون فيها عن خطوط الحرب الأمامية، يجب ألا يعتبروا أنفسهم آمنين أبدًا. كما جاء في تقرير لصحيفة "واشنطن بوست".
قتل كوزمينوف بوابل من الرصاص ثم دهست جثته بسيارته الخاصة، لكن الهجوم "افتقر إلى اللمسات المتقنة المرتبطة في كثير من الأحيان بعمليات الاغتيال الروسية"، كما تشير الصحيفة الأمريكية.
لم يتم تسميمه، ولا عُثر على جثته بين حطام طائرة سقطت. ومع ذلك، فإن "الرسالة من وراء قتل كوزمينوف هي نفسها، كما كانت في الكثير من العمليات التي جرت في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، وفقًا لما يقوله مسؤولو أمن وخبراء غربيين.
رسائل تذكير
يقول المسؤول الاستخباراتي الأمريكي السابق الذي يدير برنامج روسيا في معهد "كارنيغي للسلام الدولي"، يوجين رومر "هذا تذكير لكل معارض للنظام ويعيش في المنفى بأنكم جميعًا على القائمة".
وتشير "واشنطن بوست" بأنّ هذا التذكير أُرسل مرارًا وتكرارًا في الأشهر الأخيرة الماضية. قتل زعيم مرتزقة "فاغنر" السابق يفغيني بريغوجين، الذي انفجرت طائرته في طريقها إلى سانت بطرسبرغ، بعد أسابيع من قيادته لتمرد عسكري فاشل، وقد أظهرت العملية أن علاقته القديمة والوثيقة مع بوتين لم تحمه.
أما وفاة زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني داخل سجنه في منطقة نائية بالقطب الشمالي الأسبوع الماضي، فكانت رسالة مفادها بأنّ أولئك الذين يقضون أحكامًا طويلة بالسجن، وفي كثير من الأحيان داخل الحبس الانفرادي. وحتى بعد تجريدهم من كل قدرة على تهديد أمن الدولة، قد لا يبقون على قيد الحياة.
يوضح التقرير بأنّ كوزمينوف يوجد ضمن الفئة التي ينظر لها بوتين، وهو ضابط سابق في الاستخبارات السوفيتية، بازدراء خاص: "يعتبرهم خونة داخل الأجهزة العسكرية والأمنية. وقد تميزت فترة رئاسته لجهاز الاستخبارات بسلسلة من العمليات المتقنة التي بدت تهدف إلى إلحاق عقوبات أكثر إيلامًا بالمتهمين بـ"التخلي عن روسيا من أجل الغرب".
ومن بين العمليات البارزة استهداف الضابط سابق في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي " FSB"، ألكسندر ليتفينينكو، الذي توفي بعد أن تم تسميمه بمادة البولونيوم في لندن عام 2006، وفقًا لمحققين بريطانيين. والضابط الروسي السابق والعميل المزدوج سيرغي سكريبال، الذي نجا مع ابنته من هجوم بغاز للأعصاب، أدخلهم للعناية المركزة لفترة طويلة. وكانت المادة المستخدمة في الهجوم تعرف باسم "نوفيتشوك" ومعروف أنها لا تُنتج إلا في المختبرات الروسية.
حتى نافالني الذي نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال باستخدام نفس المادة عام 2020، نقل على إثرها للعلاج في ألمانيا، وبعد تعافيه عاد إلى روسيا عام 2021، وهناك ألقي القبض عليه فور وصوله إلى المطار.
عصابات الجريمة المنظمة الروسية
بحسب الصحيفة الأمريكية، فإنّ قدرات روسيا على تنفيذ عمليات قاتلة خارج حدودها قد تآكلت بشكل كبير، بسبب موجات طرد للجواسيس الروس من السفارات الروسية بالخارج. إذ طردت الدول الأوروبية وحدها، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين، أكثر من 400 دبلوماسي روسي مشتبه بأنهم ضابط مخابرات. ما دمر شبكات التجسس الخاصة بها في جميع أنحاء أوروبا.
لكن المسؤولين الذين قابلتهم "واشنطن بوست"، أكدوا أنّ مقتل كوزمينوف يظهر أنّ روسيا لا تزال تحتفظ ببعض القدرات داخل أوروبا، ووجدت طرقًا للتكيف مع الوضع الجديد. وقال مسؤول استخباراتي أوكراني كبير، بشرط عدم الكشف عن هويته: "لقد ارتكبوا أخطاءً لكنهم تعلموا دروسًا".
وعلى النقيض من العمليات المعقدة، كما في حالة سكريبال ونافالني، التي قام بها ضباط يعملون بشكل مباشر في أجهزة الاستخبارات الروسية، كان الهجوم على كوزمينوف في إسبانيا يشبه إلى حد كبير جريمة قتل مروعة تقوم بها العصابات. وأثارت طبيعتها تكهنات بأنّ روسيا تحولت إلى التعامل مع شبكات إجرامية للتعويض على تقييد وجودها الاستخباراتي في جميع أنحاء أوروبا. كما توضح "واشنطن بوست".
وإذا صحت هذه الفرضية فقد يكون قرار كوزمينوف بمغادرة أوكرانيا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في إسبانيا "خطوة متهورة".
فمنطقة أليكانتي، التي لجأ إليها الطيار الروسي المنشق، ترتبط منذ عقود بعصابات الجريمة المنظمة الروسية. ووفقًا لمسؤولين وتقارير حكومية يتواجد بها حاليًا عدد بارز من المغتربين الروس يصل إلى 16 ألف مغترب من ضمن حوالي 80 ألف مغترب روسي مقيم بإسبانيا منذ عام 2022.
وشنت سلطات الأمن الإسبانية عمليات متقطعة لاجتثاث العصابات الروسية، بلغت ذروتها عبر عمليات اعتقال واسعة ومصادرة للممتلكات قبل ثلاث سنوات.
وكشفت العملية التي أطلق عليها اسم عملية "تيستودو"، عن شبكة إجرامية واسعة النطاق على علاقة بروسيا، مختصة بـ"عمليات القتل والاتجار بالمخدرات والاتجار بالأسلحة والاتجار بالبشر والابتزاز"، وفق ما جاء في بيان صحفي صادر عن المكتب الأوروبي للشرطة "اليوروبول".
يبدو أنّ ردود الفعل في العواصم الغربية، حتى الآن، على وفاة نافالني، تؤكد عدم وجود خيارات انتقامية ضد روسيا. التي تحدّت التوقعات، وامتصت الدعم الغربي لأوكرانيا
وقال المسؤول الأوكراني: "إنه بالنظر إلى وجود مثل هذه الشبكات الإجرامية، يمكن لروسيا تجنيد المجرمين وليس الاعتماد على عملائها المحترفين لتنفيذ عملية قتل كوزمينوف".
هل هناك تقصيرًا غربيًا؟
يلفت التقرير إلى أنه من غير الواضح متى وصل كوزمينوف إلى بلدة فيلاجويوسا التي تقع على شاطئ البحر الأبيض، ويبدو أنه كان يعيش في إسبانيا بهوية مزيفة وجواز سفر أوكراني، ويفترض أنّ جهاز الاستخبارات العسكرية الأوكراني " GUR" من سلمه الجواز.
واحتفت أوكرانيا بانشقاق الطيار الروسي في أواخر الصيف الماضي. وقال رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الأوكراني: "ما حدث يُعد انقلابًا لم يقم به أحد من قبل، لكنني آمل أن نتمكن الآن من توسيع نطاقه".
ظهر كوزمينوف في فيلم وثائقي دعائي أصدرته كييف، يتحدث عن قراره بالانشقاق بعد مفاوضات على صفقة، وساعدت أوكرانيا في تأمين نقل أفراد عائلته من روسيا، كما وافقت على دفع مبلغ لكوزمينوف يقدر بحوالي نصف مليون دولار.
لكن وفق الصحيفة الأمريكية، من غير الواضح ما إذا كان أفراد عائلة كوزمينوف قد انتقلوا معه إلى إسبانيا. وقال مسؤولو الأمن الأوكرانيون إنّ "هناك مؤشرات على أنّ كوزمينوف ربما يكون قد عرّض أمنه للخطر من خلال الاتصال بصديقته السابقة في روسيا"، وهو خبر لم يتم تأكيده.
من جهته، تحدث مسؤول استخباراتي أمريكي سابق عن إنّ قتل كوزمينوف يثير تساؤلات حول "ما إذا كانت أجهزة الاستخبارات الغربية قد فعلت ما يكفي لتشجيع الانشقاقات في صفوف القوات الروسية وتوفير أمن المنشقين، وهو أمر يجب أن تكون له أولوية قصوى لمجموعة من الأسباب الواضحة".
بحسب "واشنطن بوست"، يبدو أنّ ردود الفعل في العواصم الغربية، حتى الآن، على وفاة نافالني، تؤكد عدم وجود خيارات انتقامية ضد روسيا. التي تحدّت التوقعات، وامتصت الدعم الغربي لأوكرانيا عبر شحنات الأسلحة والعقوبات الاقتصادية وطرد دبلوماسيها، على مدى العامين الماضيين.